إيران: المفاوضات مع “الشّيطان الأكبر”

مدة القراءة 6 د

في نهاية شهر آذار المنصرم، وفي خطبته أوّل أيّام عيد الفطر، حذّر المرشد الإيراني علي خامنئي من خطر الفتنة الداخلية، وقال: إذا خطر ببال الأعداء أن يثيروا الفتنة داخل البلاد، فإنّ الشعب الإيراني نفسه سيكون هو من يردّ عليهم بشدّة. لكن، بالموازاة، قلّل من احتمالات الضربة الخارجية على إيران، مؤكّداً أنّه على الرغم من التهديدات المستمرّة، لا يرى حدوث عمل عدائي من الخارج.

 

 

كان المرشد الإيراني علي خامنئي محقّاً في ما قاله عن “الفتنة الداخلية”. يعكس كلامه ما وصلت إليه حال الشعب الإيراني المزرية، خاصّة بعد التدهور الكبير لسعر صرف الريال الإيراني، والتقنين القاسي للكهرباء وشحّ إمدادات المياه وارتفاع التضخّم بنسب هائلة وفقدان السلع من الأسواق.

لكنّ عليّ خامنئي، على غير عادته، يُحمّل هذه المرّة “الداخل” مسؤولية الأوضاع المتدهورة، بعدما كان يُحمّل “الخارج” مسؤوليّة ما آلت إليه الأوضاع في إيران، كأنّه بذلك يبرّر إقالة البرلمان لوزير المالية والاقتصاد عبدالناصر همتي (بتصويت أكثرية ضعيفة)، ويستمرّ في تغطية الجناح المتشدّد الذي يسيطر عليه الحرس الثوري، وأتت استقالة نائب الرئيس محمد جواد ظريف المتكرّرة من مهمّاته اعتراضاً ضمنيّاً على انحياز المرشد للمتشدّدين، مشيرةً بدورها إلى تخبّط داخلي.

الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، الذي ما إن انتُخب حتّى قدّم الطاعة للمرشد الإيراني جهاراً، يفتح الباب على مصراعيه مجدّداً “للأشقّاء الأميركان”. وما ذلك إلّا دليل آخر على الانقسامات الداخلية التي تعتري الحكم في طهران، والتي اضطرّ بنتيجتها إلى إنهاء الإقامة الجبرية عن كلّ من مير حسين موسوي، رئيس وزراء إيران الأسبق، وعن مهدي كرّوبي، أحد قادة الثورة الخضراء.

كان المرشد الإيراني علي خامنئي محقّاً في ما قاله عن “الفتنة الداخلية”. يعكس كلامه ما وصلت إليه حال الشعب الإيراني المزرية

من الاستكبار إلى الانصياع

تشير خطبة عيد الفطر إلى خطوات مختلفة تصدر عن حاكم طهران، لا سيما في ما يتعلّق بالعلاقة مع الولايات المتّحدة. فالإعلام الإيراني، الذي بغالبيّته يتبع للحرس الثوري ويسوّق لسياسته، استمرّ في نهجه المتشدّد، لكنّ الحقيقة العملانية الممارَسة على أرض الواقع تقع في وادٍ آخر، وهذا ما تؤكّده سلسلة من الخطوات تتوزّع وفق الشكل الآتي:

  • بعد نفي طهران عقد لقاءات في نيويورك قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة مع ممثّلين للمرشّح دونالد ترامب، ظهر إيلون ماسك وهو يغادر مقرّ البعثة الإيرانية بعد اجتماعه بالسفير أمير سعيد إيرواني، عبر أحد مقاطع الفيديو.
  • تراجعت طهران عن نفيها لتسلُّم رسالة من ترامب حول محادثات نووية مباشرة. وبردّ غاضب مرفق بالنفي الشديد، قال علي خامنئي إنّ إيران لن تتفاوض مع “الحكومات المستبدّة”، ثمّ أعلن وزير الخارجية عباس عراقتشي أنّ حكومته، بتوجيهات من قيادة البلاد، أرسلت ردّها الخطّي على رسالة ترامب، وهو الأمر ندر حصوله منذ 1979، وفي مضمون الردّ: طهران مستعدّة لمفاوضات غير مباشرة مع واشنطن.
  • حاول الإعلام المحافظ الإيحاء بأنّ المفاوضات غير المباشرة التي قد تجري مع “الاستكبار العالمي” ستتطرّق فقط إلى نقاط محدّدة وقليلة تتعلّق بإنهاء العقوبات الاقتصادية، وبرفع الحظر عن بيع النفط وتصديره والحصول على عائداته. لكنّ وسائل الإعلام الغربي تُشير إلى أنّ المحادثات التمهيدية، التي بدأتها طهران بوساطة كلّ من مسقط وسويسرا، تشمل تسليم كميّات التخصيب النووي، على طريقة ما جرى مع ليبيا، وتصديرها مجدّداً إلى دولة، ربّما تكون روسيا. وستتناول المحادثات وقف البرنامج الصاروخي، وحصره بمدى لا يتجاوز 300 كيلومتر، إضافة إلى قطع الصلة مع الميليشيات التابعة لها في المنطقة.
  • التراجع عن مزاعم الانتصارات في المنطقة، وعن قوّة شعار المقاومة وشدّتها ونجاحها الباهر، واستبدال معزوفة “انتصارات مدوّية” بفكرة “الصبر والتراجع الاستراتيجي”، لا سيما بعد هزيمة “حماس” و”الجهاد” في قطاع غزة، وفقدان “الحزب” دوره الإقليمي، وسقوط نظام الأسد في سوريا، الذي كان شريان الأوكسيجين الممتدّ من طهران إلى حدود إسرائيل الشمالية مع لبنان.
  • تراجع النظام في طهران عن دعم أرمينيا ومواجهة تركيا في القوقاز، ومحاولته استعادة حسن العلاقة على حدوده مع أذربيجان، حيث النفوذ الأميركي والإسرائيلي مع باكو جعل إيران مطوّقة وضعيفة ومهدّدة، من جزيرة دييغو غارسيا في المحيط الهندي جنوباً، مروراً بباكستان شرقاً، وأذربيجان شمالاً، والقواعد العسكرية والأساطيل وحاملات الطائرات والبوارج غرباً.

تشير خطبة عيد الفطر إلى خطوات مختلفة تصدر عن حاكم طهران، لا سيما في ما يتعلّق بالعلاقة مع الولايات المتّحدة

لا مجال سوى الانصياع!

يعرض الرئيس دونالد ترامب على النظام الإيراني اتّفاقاً يجنّبه الحرب على الأراضي الإيرانية، ويبعد عنه تجرّع السمّ الداخلي والخارجي، بعدما كانت الغارات الإسرائيلية قد كشفت ضعفه، فتراجعت إيران عن استمرار الردّ على الردّ، وأوقفت إطلاق الصواريخ.

تشعر طهران بالضعف إثر تفاقم الغارات الأميركية على الحوثيين، ووصولها إلى 88 غارة في الليلة الواحدة. وقد فهمت صراحة أنّها رسالة لما قد يحدث لها، فأوحت للإعلام الغربي أنّها أوقفت دعمها للحوثيين في شمال اليمن والبحر الأحمر. وها هي تُسرّب استعداد فصائل “حزب الله” و”النجباء” في العراق للبحث بتسليم أسلحتهم للدولة.

بعدما استفادت إيران كثيراً من مسايرة الرئيسين الديمقراطيَّين السابقَين باراك أوباما وجو بايدن، ومحاباتهما لها، وغضّ الطرف عن تماديها في الشرق الأوسط، وطرحها نفسها دولة ذات نفوذ إقليمي تطمح مع برنامجها النووي إلى أن تصبح العضو التاسع في النادي النووي، ها هي تجد نفسها اليوم أمام سياسة ترامب القائمة على التهديد العسكري.

ما لحق بإيران من هزائم استراتيجيّة على جبهات عدّة في المنطقة، سيضطرّها، شاءت أم أبت، إلى اختيار التراجع مرّة أخرى، وإلى تجرّع السمّ كما فعل الخميني عند الاتّفاق على إنهاء الحرب مع العراق، بعد ثماني سنوات من نشوبها.

شيخوخة المرشد وتفاقم الخلافات الداخلية وصراعات التيّارات داخل النظام وعدم القدرة على إطفائها، وتزايد عزلة النظام داخلياً وخارجياً واستشراء الفساد واتّهامات بزشكيان وفريقه للحرس الثوري وعبثيّة النظام وظهور مدى هشاشته أدّت جميعها مترافقةً مع ظروف خارجية ضاغطة إلى تراجع حكم الملالي وإعلانه الاستعداد لإجراء مفاوضات مع “الشيطان الأكبر”.

إقرأ أيضاً: أميركا – إيران: تفاوضٌ تحتَ “هدير” الـB52

تشير الدلائل إلى أنّ الحكم في طهران سيستمرّ في تراجعه خطوات إلى الوراء، وفي تقديم التنازلات الواحد تلو الآخر، لا سيما أنّ ترامب خلال أقلّ من ثلاثة أشهر من ولايته أنهى محاباة أوباما وبايدن ووضع طهران أمام خيار واحد لا غير: “الانصياع وإلّا..”.

لمتابعة الكاتب على X:

@BadihYounes

مواضيع ذات صلة

هل يَطرح “الثّنائيّ الشّيعيّ” الثّقة بحكومة نوّاف سلام؟

مُجدّداً، رُميت الكرة في ملعب الرئيس نبيه برّي في ما يخصّ التعديلات على قانون الانتخاب. تسوية أو مواجهة قاسية تهدّد بتطيير الانتخابات؟ وفق معلومات تسرّبت…

اجتماع “الميكانيزم” الـ13: خرائط مخازن السلاح المخفيّة

تعقد لجنة “الميكانيزم” اجتماعها الثالث عشر اليوم الأربعاء في الناقورة، من دون حضور المستشارة مورغان أورتاغوس، وسط تصعيد إسرائيليّ ملحوظ وخطير في وتيرة الاعتداءات والاغتيالات وتفجير…

المواجهة الإيرانيّة – الإسرائيليّة الثّانية… على الأبواب؟

لا يُمكن فصل ما يجري على السّاحتَيْن العراقيّة واللبنانيّة وانكفاء الحوثيّين، عمّا يُحضَّرُ في الكواليس بشأن إيران. لا يمكن فهم تصلّبِ موقف “الحزبِ” في لبنان…

ستون يوماً: الإصلاحات أو العقوبات

ليس الغزل العلني سوى دبلوماسية معهودة، وقليل مما تبقى من أمل بأن يقوم لبنان في الشهرين المقبلين بما كان يفترض أن يقوم به أو يبدأ…