أراد سامي الجميّل أن يتجاوز البقعة الجغرافية الممتدّة من المدفون إلى كفرشيما استناداً إلى مشاهداته الدقيقة في يوم التشييع الكبير. وهو صادق ولا غبار على صدقه. وقد بدا للكثرة الكاثرة أنّ في نبرة صوته وتعابير وجهه ولغة جسده ما يدلّ على تغيير قد يرقى إلى مرتبة جذريّة. ولذلك تفاعلوا مع قوله وسرده. ثمّ أخذوا يصفّقون له بحرارة حتّى احمرّت أيديهم.
يسرد سامي الجميّل قصصنا الصغيرة. من بشير الذي هوى بعدما لامس مرتبة ليس يُضاهيها إلّا مار مارون الموارنة. إلى كمال جنبلاط الذي تدرّج من عمود سماء الدروز إلى السماء نفسها. وخلفهما رفيق الحريري الذي صار بوصلة السُّنّة وأيقونتهم وميزان حرارتهم، وهو ظلّ يحكم حركتهم بعد عقدين من النوم في ضريحه. وصولاً إلى الأمين العامّ الذي أضاف للشيعة حُسيناً جديداً يبكون فوق نعشه ما بقوا وبقي الليل والنهار.
انتبه سامي لهذه الخصوصيّات المعقّدة، ولتلك الحميميّة المهولة التي شكّلت الرباط الوثيق بين الجماعات وأساطيرهم. فشذّب خطابه، وصوّب رؤيته، وصار ينظر إلى المعادلة اللبنانية من كلّ جوانبها، ليس بعيون رئيس حزب اليمين المسيحي، ولا بعيون التقسيم والتقطيع والفدرلة، بل بعيون سامي الذي نضج، ليس على المستوى السياسي والوطني وحسب، بل على المستوى الشخصيّ أيضاً.
أصل النضوج لا يرتبط فقط بتراكم التجارب والاختبارات. ولا بجولاته وصولاته على منابر الارتجال والقول الشجاع. ولا بحضوره الوازن والمؤثّر في مجلس النواب. ولا حتى بعقله الهادئ وسرديّاته التي لا يُشقّ لها غبار. كلّ ذلك أساسٌ مؤسّس لشخصيّته. لكنّ الانعطافة الكبرى كانت في مكان آخر. في طرابلس. حيث القلب والحبّ.
يقول الشيخ سامي إنّ البلاد تحتاج إلى المصارحة والمصالحة. وهذا صحيح. لكنّها قبل ذلك وبعده، تحتاج إلى الاندماج والانصهار
النّفوس قبل النّصوص
حين سرقت طرابلس قلب سامي، سرقت منه أيضاً تقوقعه العميق، وهو تقوقع خافت ينام في الصدور بفعل الخشية والريبة، أو بفعل الذعر والقلق. الناس أعداء ما يجهلون. وسامي كان ينقصه أن يعرف. ليس المعرفة السطحية التي تُروى على شاكلة الفولكلور اللبناني أو حفلات الزجل. بل المعرفة العميقة لدواخل النفوس. وهذه لا تستقيم إلّا بالحبّ والمصاهرة.
لا يستوي أن يجتمع مارونيّان من العاقورة لمناقشة العقل العميق للسنّة أو الشيعة. وإن فعلا انطوت النتيجة حتماً على سوء تقدير أو على كارثة موصوفة. ولذلك ربّما كانت العرب تتبادل المصاهرة كلّما سال الدم بين القبائل على نحو غزير. ينام القاتل والقتيل فوق وسادة واحدة. يستبدلان الضغينة بالحبّ. والعداء بالحوار. والتذابح بالغزل. والفناء بالبنات والبنين. فالحبّ مدخل أكيد نحو الوئام المستدام. ولبنان يحتاج إلى الكثير منه حتّى يكتب قصّته الخالصة التي تجمع كلّ قصصنا الصغيرة.
إقرأ أيضاً: ماذا تريد يا دولة الرئيس؟
يقول الشيخ سامي إنّ البلاد تحتاج إلى المصارحة والمصالحة. وهذا صحيح. لكنّها قبل ذلك وبعده، تحتاج إلى الاندماج والانصهار. في النفوس قبل النصوص. وهذا لا يكون إلّا على الشاكلة التي بدأها حفيد بيار وشقيق بيار، أي بالمصاهرة. تصاهروا تصحّوا.
لمتابعة الكاتب على X: