انقسم الفلسطينيون على توصيف ما حدث بشأن غزة، بعضهم احتفى به كنصر مبين، وبعضهم الآخر لم يروه كذلك.
في عالمنا العربي، إعلام لا مثيل له في أيّ عالم آخر، فهو ذو قدرة خارقة على أن يجعل ملايين المواطنين الأبرياء يطفون على شبر ماء في الأيّام الأولى من أجل أن يغرقوا فيه في الأيّام التالية.
إعلامٌ له اليوم الأوّل حيث الانتصار الساحق، وعلينا البكاء في اليوم التالي، بعد أن نستبين الخيط الأبيض من الأسود.
جيلنا الذي دخل العقد السابع أو الثامن من العمر، وقليلون ممّن دخلوا التاسع، لم يغادر ذاكرتهم ما حدث قبل حرب حزيران 1967 وأثناءها وبعدها.
كان رجل يصدر أوامر للأمّة بالاحتفاء المبكر بالنصر، قبل أن تقع الحرب، وحين وقعت أصدر أوامره للسمك في البحر كي يتجوّع استعداداً لوجبات دسمة من جثث الأعداء.
كان الرجل واسمه أحمد سعيد يسيطر بصورة تكاد تكون شاملةً على ملايين الآذان التي تلتصق بأجهزة الراديو حيثما يصل إرسال صوت العرب. كان مالكاً للحقيقة، وما يقول غير قابل للنقاش، وكان بتصرّفه جيشٌ من مغنّين ومغنّيات ومؤلّفين وملحّنين وكتّاب امتلكوا موهبة التسلسل من الأذن إلى القلب دون المرور على العقل.
كانوا يملؤون ببراعة مدهشة نفوسنا بيقين النصر، وحين صدر البلاغ الأوّل يوم السادس من حزيران 1967 لم يكلّف الجمهور العريض نفسه عناء التريّث لرؤية ساعة تحقيق النصر. فجرى الاحتفال به باستمتاع لذيذ بالغفلة عن الحقيقة التي تمّ إخفاؤها وراء البلاغات والأغنيات.
هزمتنا الإذاعات والأغنيات
قالت الحقيقة إنّ الذي انتصر هو الذي هزمته الإذاعات والأغنيات، وأنّ الاحتفال بالانتصار جاء لأنّ الأغنيات قالت غير ذلك.
صمت معبود الآذان أحمد سعيد. لقد منحته نتيجة الحرب إجازة طويلة لم يعد يُسمع له فيها صوت، وأُمر خليفته بوضع أغنيات النصر في الأرشيف مكتوباً عليها “ممنوع إذاعتها”، وذلك في سياق قرار الزعيم عبد الناصر بإزالة آثار العدوان.
انقسم الفلسطينيون على توصيف ما حدث بشأن غزة، بعضهم احتفى به كنصر مبين، وبعضهم الآخر لم يروه كذلك
بعدما أُسدل الستار على النصر الإذاعي والغنائي، تواضعت اللغة وتعقّلت الأغنيات وسمعنا المغفور له فريد الأطرش يواسينا بأغنية تفيد بأنّنا في يوم النداء فعلنا يسبق قولنا، ويدعونا إلى ألّا يخيب الرجاء لأنّ للباطل جولة.
بعد أيّام قليلة من ذلك الشهر لملم أثيرنا أشلاء الدبّابات المعادية، التي دمّرتها البلاغات والأغنيات، وكان أن اكتشف مهندسو الانتصار ترياقاً للشفاء منه بأن عاقبوا ذلك النصر الكئيب بتخفيض المرتبة من هزيمة إلى نكسة.
محمد سعيد بعد أحمد سعيد
بعد سنوات طويلة تبيّن لنا أنّ الطبع يغلب التطبّع، ذلك أنّ ظاهرة أحمد سعيد أعادت إنتاج نفسها بمحمد سعيد، وكأنّ تشابه الاسمين دليلٌ على تشابه الفعل.
جيلنا الذي عاش الانتصار الإذاعي في حزيران 67، قدّر لمن بقي منه على قيد الحياة أن يعيش استنساخاً حرفيّاً لإعلام حزيران. كان الجيش العراقي الذي خرج للتوّ من حسم الحرب مع إيران قد اجتاح الكويت، وأعلن المستوى السياسي في العراق تحويل الدولة الكويتية إلى المحافظة التاسعة عشرة من محافظات الدولة الأمّ.
كان أن فتح الإعلام المنتصر الشهيّة لانتصار أكبر يُلغي حزيران النكسة من التاريخ ليكتب مكانه نصراً عاصمته بغداد هذه المرّة.
كان محمد سعيد الصحّاف هو البطل الإعلامي لتلك الحرب، فقد احتلّ ملايين القلوب بإطلالاته من وراء الميكروفونات والشاشات، محوّلاً الاحتشاد الدولي الذي هندسته أميركا ومن معها إلى نكتة. فقد اختصر الزمن والواقع وحقيقة ما يجري باللغة، مستعيراً قولاً قديماً جرى تداوله زمن فتوحات الأجداد: “قولوا لعلوج الروم إنّنا آتون”.
بعد سنوات طويلة تبيّن لنا أنّ الطبع يغلب التطبّع، ذلك أنّ ظاهرة أحمد سعيد أعادت إنتاج نفسها بمحمد سعيد
كانت إطلالة الصحّاف على الشاشات مقرّراً ألزمت الملايين نفسها بالمواظبة عليه. كان قد حوّل الاحتشاد الدولي الذي ضمّ أكثر من نصف عديد جيوش العالم إلى مشروع لإبادته. أمّا زحفه على بغداد فقد كان مجرّد تورّط غبيّ سيجري تقطيعه كما تقطع الأفعى إلى أجزاء ليسحق رأسها أخيراً.
لم تستغرق اللعبة زمناً طويلاً، إذ غاب الصحّاف عن المشهد بصورة تكاد تكون مطابقةً لاختفاء مؤسّس نظريّة النصر.. أحمد سعيد.
إقرأ أيضاً: صرت أكره مفردة النصر
غير أنّ المذكورين أسّسا لمدرسة وأنجبا أبناء وأحفاداً ساروا على نهجها بحيث صار كثيرون منّا يرون أفدح الكوارث التي تحلّ بنا انتصارات.
حين تضع هذه الحرب أوزارها سنقول شيئاً عن إعلامها.