السّعوديّة تسحب لبنان من مستنقع الشّرق إلى أوروبا الجديدة

مدة القراءة 4 د

كلّ الصالونات السياسية في لبنان تهمس بسؤال واحد: ماذا تريد المملكة؟ من هو الشخص الذي تُفضّله لرئاسة الجمهورية؟ ثمّ لرئاسة مجلس الوزراء؟ ولا أحد يملك جواباً شافياً، حتّى أقرب المقرّبين إليها. لا أسماء في جعبتهم ولا حتى إيحاءات. لا شيء سوى عبارة واحدة: نريد دولة سويّة وطبيعية، متصالحة مع نفسها ومع محيطها، يتقدّمها أهل العقل والحكمة والنزاهة، لا كارتيلات الفساد.

 

الرياض تمارس دورها الطبيعي في لبنان بالروحيّة تلك. ليست مع طرف على حساب آخر، ولا مع محور في مواجهة آخر. هي تريد لهذه البلاد أن تسلك طريقها الفعليّ نحو استقرار طويل الأمد، مع ما يعنيه هذا الاستقرار من ازدهار مستدام، وانتقالة نوعية وهائلة من فكرة البلد المستنقع والساحة المفتوحة إلى لبنان الرائد على مستوى المنطقة.

تغيب الرياض ولا تغيب. وهي إن غابت حين أطبق المجانين على رأس الدولة وقرارها، فإنّها كانت تتحضّر لعودة حتميّة مهما طال الانتظار، لأنّ أحداً لا يستطيع أن يأخذ لبنان بعكس مسار التاريخ، ولو استطاع لبرهة من الزمن، فإنّ استطاعته تلك محكومة قطعاً بالسقوط والفشل، وقد جرّبت مشاريعٌ ودولٌ ورؤوسٌ كبيرة أن تأخذه وتأخذ أهله إلى حيث تريد وتشتهي، لكنّها أصيبت بصفعات مؤلمة وبخيبات أمل، حيث بدا أنّ هذا البلد الطريّ الوديع متخصّصاً أيضاً بطحن الجماجم.

لبنان

وقفت السعودية في الجانب الصحيح من التاريخ. وهي طالما عبّرت على لسان كبار مسؤوليها عن رغبة حقيقية باستقرار لبنان وسلامته وخروجه من عنق الزجاجة، حتى باتت هذه العبارات ركن الزاوية في متن الأدبيات السياسية السعودية تجاه لبنان. فهي لا تبحث عن نفوذ ولا عن حضور ولا عن سيطرة أو توسّع، بمقدار رغبتها العميقة باستقرار المنطقة وهدوئها. وهنا تماماً حضرت في الجانب المقابل للمشروع الإيراني، المتخصّص في هتك الأنسجة الاجتماعية، وفي تفجير الدول من دواخلها، وفي زرع الشقاق وإشعال العصبيّات وتحويل الحدائق الخضر إلى جحيم ليس له قرار.

الرياض تمارس دورها الطبيعي في لبنان بالروحيّة. ليست مع طرف على حساب آخر، ولا مع محور في مواجهة آخر

المشروع السّعوديّ… الوجه الطّبيعيّ للمنطقة

لم يكن المشروع السعودي إلّا الوجه الطبيعي للمنطقة وأهلها، وقد اختصره الأمير محمد بن سلمان بعبارة مفتاحيّة شديدة الدقّة وشديدة الوضوح: نريد للشرق الأوسط أن يكون أوروبا الجديدة. هذا هو العنوان العريض، وهذه هي السياسات الرشيدة في مقابل كلّ مشاريع إعادة المنطقة إلى العصر الحجري، عبر العبث بفوالقها الزلزالية، وتزنيرها بالحديد والنار والأحقاد والضغائن، وجذبها عنوة نحو الارتطام الكبير.

ماذا تريد المملكة؟ الجواب بسيط جدّاً. تريد لنا أن نعود إلى حيث يجب أن نكون، وأن نصير قطباً مُؤسّساً وحجراً وازناً في أوروبا الجديدة، وأن نبني بلادنا على النحو الذي تُبنى فيه الدول المحترمة، وأن نخرج من سراديب الأوهام المدمّرة وأنفاق الأيديولوجيات القاتلة، إلى رحاب التفاعل والتكامل مع المحيط ومع العالم، بما يستوي مع تاريخنا ومع رسالتنا ومع بريقنا العابر للجغرافيا والخرائط. تريد لنا أن ننهض من كبوتنا، وأن ننظر حولنا بعيوننا المجرّدة، لندرك أنّ بلادنا كانت تهرول نحو حتفها في معارك لا ناقة لها فيها ولا جمل.

إقرأ أيضاً: تحرّك الرّياض: سقف الطّائف… وقَرْن الأقوال بالأفعال

لا تريد المملكة منّا أن ننتخب الاسم الذي تشتهيه رئيساً، بل أن نبحث عن رئيس يُخرجنا من كبوتنا تلك، ويحملنا معه إلى المنطقة الجديدة، بروحية جديدة، وذهنية جديدة. هي تنتظرنا عند أوّل الطريق، لا في منتصفه ولا في آخره. تنتظرنا بيدين مفتوحتين وبعاطفة تاريخية وبحضن لا يبرد. كلّ ما هو مطلوب منّا أن نمدّ يدنا نحوها، لا لنطعن بل لنعلن عن رغبتنا العميقة بالشراكة الكاملة في سحب بلادنا ومنطقتنا من المستنقع إلى الشرق الجديد.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@kassimyousef

مواضيع ذات صلة

سمير عسّاف: مرشّح لا يعرفه ناخبوه

مرّت على الرئاسة اللبنانية، قبل الاستقلال كما بعده، صنوف من البشر: المحامي والضابط والوزير والنائب والسفير والإداري والتاجر، الأمير والزعيم والخارج من بيت فقير متواضع،…

لماذا يكرهون الإمارات؟

أخرجت لحظة وصول “هيئة تحرير الشام” إلى السلطة في سوريا، أعداء دولة الإمارات العربية المتّحدة من جحورهم. فعلى الرغم من البراغماتيّة اللافتة في أداء قائد…

نهاية “الإمبراطوريّة” الإيرانيّة التي لم تُنجَز

تتوالى “الزلازل” الجيوسياسيّة بسرعة في المنطقة. ولا عجب في ذلك. فهو عالم جيوسياسيّ واحد. ما يحدث في منطقة ينعكس على الأخرى. أوّل تداعيات “زلزال” 7…

مستقبل الجاسوسيّة في ظلّ ثورة الذّكاء الاصطناعيّ

خلال الحرب الباردة، كانت لعبة التجسّس تعتمد على ذكاء البشر وخيانة الأمانة وشجاعة العملاء. كان جيمس بوند، شخصيّة إيان فليمنغ الشهيرة، يعتمد على الأدوات المتطوّرة…