لطالما شكّلت الدراما التلفزيونية السورية قوّة شعبية مؤثّرة في المنطقة العربية، وخاصة المسلسلات التاريخية التي تلقى صدى عميقاً لدى الجماهير. إلا أنّ هذه المسلسلات توقّفت تماماً تقريباً في عام 1963، عام انقلاب البعث، كما لو أنّ التاريخ نفسه انتهى مع البعث وصعود آل الأسد. هذه الحدود غير المعلنة هي التي شكّلت لعقود من الزمن السردية والذاكرة الجماعية للسوريّين.
لكن منذ 8 كانون الأول 2024، بدأ التاريخ يتحرّك مرّة أخرى: انتهى عصر الأبديّة في سوريا. في فجر ذلك اليوم، أصبح المستحيل واقعاً، وهو ما يذكّرنا بالقول الشهير لنيلسون مانديلا: “غالباً ما يبدو الأمر مستحيلاً إلى أن يتحقّق”.
ما كان يصعب تصوّره لعقود من الزمن تحقّق في غضون أكثر من أسبوع بقليل. للمرّة الأولى منذ 54 عاماً، وجدت سوريا، التي وصفها الباحث الفرنسي ميشيل سورا بـ”الدولة البربريّة”، نفسها من دون أسرتها الحاكمة. على مدى سنوات طويلة، قام نظام الأسد بتصدير الصراع واللاجئين والمخدّرات. وكانت التكلفة الاقتصادية هائلة: تقلّص الناتج المحلّي الإجمالي بنسبة تزيد على 80%، وانخفضت قيمة العملة بنسبة 99%، وبات 90% من السوريين دون خطّ الفقر، ونزح أكثر من 12 مليون شخص داخلياً وخارجياً.
للمرّة الأولى منذ 54 عاماً، وجدت سوريا، التي وصفها الباحث الفرنسي ميشيل سورا بـ”الدولة البربريّة”، نفسها من دون أسرتها الحاكمة
منذ تولّيه الحكم عام 1970، أسّس حافظ الأسد نظاماً ملكياً رئاسياً، مبنيّاً على مراكز قوّة مختلفة، بما في ذلك الجيش، وأجهزة الاستخبارات، وحزب البعث، والعمّال والفلّاحين، والطائفة العلوية. نجا هذا النظام من الحرب الباردة، ومن وفاة حافظ الأسد عام 2000، ونجح في ضمان انتقال السلطة بنجاح إلى ابنه بشّار، وهو طبيب عيون طويل القامة، أحمق، لم يكن من المفترض أن يحكم أصلاً.
صراعان للحركة التّصحيحيّة
شهد نظام الأسد صراعيْن للحركة التصحيحية بين عام 1970 وثورة 2011: الأوّل من الفرع السوري لجماعة “الإخوان المسلمين”، وجرى قمعه بشكل عنيف. بينما كان الثاني محاولة انقلاب في القصر نفسه قام بها رفعت، شقيق حافظ، الذي تمّ نفيه بعد ذلك.
لقد ورث بشار الأسد نظاماً مصمّماً للعمل بشكل دائم في ظلّ عقليّة الحصار، يزدهر في بيئة من الخطر والتهديدات المستمرّة، وهي سمة مشتركة بين أقرب حلفاء الأسد، وخاصّة النظام الإيراني. فالأزمات ليست نادرة في الشرق الأوسط، وخاصة في بلاد المشرق العربي، والخطر دائم الحضور. وزعم آل الأسد أنّ نظامهم هو القلب النابض للقومية العربية، المدافع عن المصالح الفلسطينية، والخصم القويّ لإسرائيل.
ورث بشار الأسد نظاماً مصمّماً للعمل بشكل دائم في ظلّ عقليّة الحصار، يزدهر في بيئة من الخطر والتهديدات المستمرّة، وهي سمة مشتركة بين أقرب حلفاء الأسد
الأسباب الجذريّة للثّورة
كُتب الكثير عن الأسباب الجذرية لثورة سوريا 2011، وبرزت عدّة عوامل رئيسية:
– إنّ قمع ربيع دمشق الذي لم يدُم طويلاً في عام 2001، والذي عزّز لفترة وجيزة مناقشات فكرية عبر الحدود (إلى لبنان) حول الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أكّد عدم قدرة النظام أو عدم رغبته في إحداث تغيير ذي مغزى.
– أدّى إهمال النظام للمناطق الريفية إلى توسيع الفجوة بين المناطق الحضرية والريفية، الأمر الذي زاد من تهميش المجتمعات الريفية.
– أدّت السياسات الاقتصادية، بما في ذلك رفع الدعم، وخفض الإنفاق الحكومي، وتفشّي الفساد في القطاع العامّ، الى دفع المزيد من السوريين إلى ما دون خطّ الفقر.
– أدّى انهيار القطاع الزراعي في أعقاب الجفاف الشديد من عام 2006 إلى عام 2010 إلى تفاقم سخط سكّان المناطق الريفية.
– في غضون ذلك، أفاد تحرير القطاعات الاقتصادية المختلفة بشكل غير متناسب النخبة الرأسمالية المرتبطة بالنظام، التي استولت على موارد الدولة. ومع فشل الاقتصاد المحلّي في الاستفادة من أرباح الرأسماليين المحسوبين، ارتفعت معدّلات البطالة في المدن بشكل كبير، وتوسّعت فجوة التفاوت في الدخل بشكل دراماتيكي، فتأجّج الاستياء على نطاق واسع.
أدّت السياسات الاقتصادية، بما في ذلك رفع الدعم، وخفض الإنفاق الحكومي، وتفشّي الفساد في القطاع العامّ، الى دفع المزيد من السوريين إلى ما دون خطّ الفقر
لا خبز ولا حرّية
بعبارة بسيطة، تحت حكم عائلة الأسد، لم يكن لدى سوريا خبز ولا حرّية. وبفضل الولاء الثابت من مراكز القوّة، ودعم روسيا وإيران ووكلائهما، تمكّن بشار الأسد من ادّعاء تحقيق النصر في الحرب. وفي عام 2020، اكتسبت الجهود الرامية إلى تطبيع العلاقات مع النظام زخماً، وبلغت ذروتها في إعادة دمج سوريا في جامعة الدول العربية في عام 2023 بعد تعليقها في عام 2011.
مع ذلك، كشف انهيار النظام عن تمييز حاسم: الفوز في الحرب ليس هو نفسه الفوز في السلام. قد يكون بشار الأسد وحلفاؤه الداخليون والخارجيون قد ضمنوا السيطرة العسكرية، لكنّهم فشلوا في معالجة أيّ قضايا تتعلّق بالحكم.
لقد أدّت سياسة النظام إلى تعميق الفجوة مع الدوائر الانتخابية الرئيسية المتمثلّة في الفلاحين والبيروقراطية والجيش، وحتى المجتمع العلوي، والتي تكبّدت خسائر فادحة خلال الحرب، وتحمّلت تراجع مستويات المعيشة وانهيار القوّة الشرائية وتدهور العملة والتضخّم المتصاعد.
في الوقت نفسه، تطوّرت الرأسمالية المرتبطة بالنظام إلى نظام مشوّه للغاية، يعتمد بشكل متزايد على الأنشطة غير المشروعة مثل إنتاج المخدّرات والاتّجار بها، والتهريب، والاتّجار بالبشر، والنهب الصريح. وبالإضافة إلى الفشل في تحقيق استقرار البلاد، رسّخت هذه الممارسات الفساد وزادت من الانحلال الثقافي والاجتماعي والاقتصادي.
كشف انهيار النظام عن تمييز حاسم: الفوز في الحرب ليس هو نفسه الفوز في السلام
تحدّيات المستقبل
اليوم، تواجه سوريا ما بعد الأسد تحدّيات هائلة، وتحديد نقطة البداية أمر شاقّ. وسيكون من الصعب التوصّل إلى توافق في الآراء حول قائمة الأولويّات. ويبدو أنّ تحديد التدخّلات السياسية المناسبة لعكس مسار الدمار، الذي تسبّبت به عائلة الأسد وحلفاؤها، أمر شبه مستحيل. وسيكون من الضروري معالجة الأسئلة الحاسمة حول هيكلية ووظائف المؤسّسات، والاقتصاد، والقطاع العامّ، وطبيعة الدستور الجديد، وأنواع التعدّدية والتمثيل. وفي نهاية المطاف، ستكون الآليّات والعمليات التي تتمّ من خلالها معالجة هذه القضايا والتفاوض بشأنها ومدى الشمولية في اتّخاذ القرار هي المحدّدات الرئيسية للنجاح أو الفشل.
قد يمكن الانطلاق من معالجة قضيّة اللاجئين والنازحين داخليّاً. فالنزوح في سوريا لم يكن نتيجة الحرب فقط، بل كان أيضاً استراتيجية متعمّدة. فقد تبنّى النظام وحلفاؤه الهندسة الديمغرافية كأداة لإعادة تشكيل السكّان.
لا يزال اللاجئون الذين يعيشون في لبنان وتركيا والأردن يعانون من ظروف قاسية. ومن شأن تيسير العودة المنظّمة للّاجئين أن يساهم في تخفيف الضغط على الدول المضيفة، وفي إعادة توجيه الدعم الإنساني إلى سوريا، ووضع الأساس لرفع العقوبات وبدء إعادة الإعمار. يمكن أن تساعد عودة اللاجئين، الذين دعم الكثير منهم الثورة، في توسيع قاعدة الدعم لنظام جديد وتعزيز الاستقرار خلال الفترة الانتقالية.
إقرأ أيضاً: من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024
إحدى المعضلات المستمرّة هي كيفية الحفاظ على الاستقرار وضمان تقديم الخدمات على المدى القصير والعمل في الوقت نفسه على بناء مؤسّسات قويّة، وتعزيز التمثيل الديمقراطي والحكم الرشيد على المدى الطويل. فمنذ غزو العراق في عام 2003 وصعود “محور المقاومة” الإيراني، تحوّل النموذج السائد في بلاد المشرق العربي من احتواء الأنظمة القويّة إلى إدارة الأنظمة الفاشلة. ومنذ عام 2011، لم تنجح أيّ من دول ما بعد الربيع العربي في التعامل بنجاح مع هذا التحدّي.
هذه الحقيقة تثير سؤالاً حاسماً: هل تكسر بلاد الشام هذه الحلقة وتشقّ مساراً مختلفاً؟ أم تستسلم أيضاً لنمط عدم الاستقرار؟
* باحث وأكاديميّ.
لقراءة النص بلغته الأصلية اضغط هنا