استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مدة القراءة 9 د

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين التواصل بين الجهات المعنيّة سيُسهمان في تعزيز نظام ماليّ قادر على تلبية المعايير الدولية، وهو ما يساعد لبنان على الخروج من القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي وتحقيق استقرار ماليّ دائم.

 

تحدّيات الامتثال المحلّيّة والدّوليّة

في حين أنّ التهرّب الضريبي في لبنان يقوّض بشكل مباشر سلامة إطار مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في البلاد، إلا أنّ المسألة لا تقتصر على الالتزامات الضريبية المحلّية. يخضع العديد من اللبنانيين والشركات اللبنانية للمعايير الدولية بموجب أطر مثل قانون الامتثال الضريبي للحسابات الأجنبية (FATCA) ومعايير الإبلاغ المشتركة (CRS)، وكلاهما يتطلّب من المؤسّسات المالية الإبلاغ عن الأصول الأجنبية التي يحتفظ بها المواطنون الأميركيون (FATCA) وغيرهم من المقيمين في العالم (CRS).

– بموجب قانون الامتثال الضريبي للحسابات الأجنبية (FATCA)، يتعيّن على المصارف اللبنانية إبلاغ مصلحة الضرائب الأميركية بمعلومات عن أصحاب الحسابات الأميركية.

يشكّل العملاء غير الممتثلين الذين يحاولون تجنّب هذا الإبلاغ خطراً على المؤسّسات المالية، حيث إنّ عدم الامتثال يمكن أن يؤدّي إلى عقوبات كبيرة، بما في ذلك ضريبة مقتطعة بنسبة 30% على المدفوعات من مصادر أميركية للبنك. وهذا يضيف طبقة من التدقيق للمصارف اللبنانية، التي يجب أن تنفّذ عمليات قويّة للعناية الواجبة وإعداد التقارير لتجنّب العقوبات والحفاظ على الوصول إلى النظام المالي الأميركي.

– يتطلّب معيار الإبلاغ المشترك، الذي طوّرته منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، من البنوك تبادل المعلومات تلقائياً حول أصحاب الحسابات الأجنبية مع السلطات الضريبية في أكثر من 100 ولاية قضائية مشاركة. من المتوقّع أن تقوم المؤسّسات المالية اللبنانية بتحديد أصحاب الحسابات غير المقيمين والإبلاغ عنهم لمنع التهرّب الضريبي على نطاق عالمي.

التهرّب الضريبي في لبنان يقوّض بشكل مباشر سلامة إطار مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في البلاد

إذا تهرّبت شركة لبنانية من متطلّبات الإبلاغ هذه، فإنّها لا تعرّض حالة امتثالها للخطر فحسب، بل تعرّض المصرف أيضاً لخطر الفشل في تلبية المعايير الدولية. يمكن أن يضرّ هذا الفشل بعلاقات المصرف اللبناني مع البنوك المراسلة ويؤدّي إلى الإضرار بالسمعة، وهو ما يقوّض الثقة مع الشركاء الدوليين.

مخاطر أوسع نطاقاً على المؤسّسات الماليّة

المؤسّسات المالية التي تفشل في تحديد وإدارة المخاطر التي يشكّلها العملاء غير الممتثلين، يمكن أن تصبح عن غير قصد مشارِكة في الجرائم المالية العالمية. هذا يخلق دورة حيث:

– يواجه البنك المرتبط بالعملاء الذين يتهرّبون من التزامات قانون الامتثال الضريبي للحسابات الأجنبية أو معيار الإبلاغ المشترك، ضرراً للسمعة. يمكن أن يؤدّي هذا الضرر إلى فقدان الأعمال التجارية، وانخفاض الثقة مع النظراء الدوليين، وزيادة الرقابة والتدقيق من قبل المنظّمين الأجانب.

– قد تواجه البنوك التي لا تمتثل لقانون الامتثال الضريبي للحسابات الأجنبية (FATCA) ومعيار الإبلاغ المشترك، عقوبات من سلطات الضرائب الأجنبية، وتخاطر بفقدان قدرتها على الوصول إلى الأسواق المالية الدولية. على سبيل المثال، قد يؤدّي عدم الامتثال لقانون الامتثال الضريبي للحسابات الأجنبية (FATCA) إلى عقوبات وقيود مالية مباشرة تحدّ من عمليات المصرف اللبناني مع المؤسّسات المالية التي تتّخذ من الولايات المتحدة مقرّاً لها.

– يتطلّب الوفاء بالتزامات قانون الامتثال الضريبي للحسابات الأجنبية (FATCA) ومعيار الإبلاغ المشترك (CRS) بنية تحتية قويّة للامتثال. ويضيف العملاء غير الملتزمين أعباء تشغيلية على البنك، حيث يحتاجون إلى مزيد من المراقبة وإعداد التقارير وبذل العناية الواجبة لضمان التزام المؤسّسة بالمعايير الدولية.

التّخفيف من المخاطر

لمواجهة هذه التحدّيات، يجب على المؤسّسات المالية اللبنانية إعطاء الأولوية للامتثال للمعايير الضريبية ومعايير الإبلاغ المحلية والدولية. وتشمل الإجراءات الرئيسية ما يلي:

– إجراء العناية الواجبة الصارمة على العملاء، وخاصة العملاء من الشركات، لتقويم المخاطر المحتملة لعدم الامتثال للمعايير المحلّية وقانون الامتثال الضريبي الأميركي (FATCA) ومتطلّبات معيار الإبلاغ المشترك.

يلعب مجتمع الأعمال اللبناني دوراً مهمّاً في دعم جهود مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب

– الاستثمار في التكنولوجيا والتدريب للوفاء باستمرار بالتزامات الإبلاغ عن قانون الامتثال الضريبي للحسابات الأجنبية (FATCA) ومعيار الإبلاغ المشترك (CRS)، وبالتالي تقليل مخاطر عدم الامتثال غير المقصود.

– التنسيق مع مكوّنات القطاع الخاصّ والسلطات الضريبية المحلّية لتحديد العملاء غير الملتزمين واتّخاذ التدابير المناسبة، مثل تجميد الحسابات أو الإبلاغ عن العملاء ذوي المخاطر العالية، لدعم سلامة النظام المالي.

دور مجتمع الأعمال

يلعب مجتمع الأعمال اللبناني دوراً مهمّاً في دعم جهود مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. إنّ معالجة التهرّب الضريبي وعدم الامتثال في ظلّ الأطر المحلّية والدولية، أمرٌ ضروري للحفاظ على سمعة المؤسّسات المالية اللبنانية على مستوى العالم. ومن شأن اتّباع نهج استباقي يدمج معايير الامتثال المحلّية والوطنية والدولية أن يساعد على ضمان عدم قيام البنوك عن غير قصد بتسهيل التهرّب الضريبي أو الانتهاكات التنظيمية. من خلال التوافق مع التوقّعات العالمية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، يمكن للمؤسّسات المالية اللبنانية الحدّ من التعرّض للمخاطر والمساهمة في الاستقرار المالي للبلاد.

علاوة على ذلك، يجب على مجتمع الأعمال اللبناني الالتزام بالمعايير الدولية للمساءلة، بما في ذلك الامتثال الضريبي والممارسات الأخلاقية والسلوك القانوني، للوصول إلى الخدمات المصرفية. وعدم الامتثال في هذه المجالات يعرّض القطاع المالي للمخاطر التنظيمية ومخاطر السمعة.

المؤسّسات المالية

وفي غياب الإنفاذ الحكومي القويّ، غالباً ما تتحمّل المؤسّسات المالية المسؤولية غير المعلنة المتمثّلة في مراقبة سلوك العملاء. مع إدراج لبنان على القائمة الرمادية، تخضع البنوك الآن لتدقيق مشدّد لضمان الامتثال للقانون 44 لعام 2015، الذي يذكر الجرائم الـ21، والذي يتوجّب على جميع مكوّنات المجتمع اللبناني الامتثال لأحكامه. يتطلّب هذا التفويض من البنوك إجراء فحوصات شاملة للخلفيّة، ومراقبة العملاء عن كثب، والإبلاغ عن الأفراد المعرّضين لمخاطر عالية المتورّطين في أنشطة غير مشروعة لتجنّب العقوبات والعقوبات المحتملة.

من المتوقّع أن تقوم المؤسّسات المالية اللبنانية بتحديد أصحاب الحسابات غير المقيمين والإبلاغ عنهم لمنع التهرّب الضريبي على نطاق عالمي

بناء إطار موحّد للامتثال

تواجه المؤسّسات المالية في لبنان العديد من التحدّيات بسبب البيئة التنظيمية المجزّأة التي تضع أعباء إنفاذ، لا داعي لها، على عاتق البنوك. تؤدّي الإجراءات البطيئة وغير المنسّقة بين الفروع الحكومية إلى التزامات امتثال معقّدة، وعلاقات متوتّرة مع العملاء، وزيادة التكاليف التشغيلية للمؤسّسات المالية.

يؤدي الافتقار إلى التواصل بين الوكالات، بما في ذلك السلطات الضريبية والهيئات التنظيمية وإنفاذ القانون، إلى تفاقم هذه المشكلة. ومن دون الوصول إلى المعلومات المهمّة في الوقت المناسب، تكافح البنوك لتقويم مخاطر العملاء بشكل كامل، وهو ما يعوّق قدرتها على معالجة التهديدات المحتملة بشكل استباقي.

معالجة أوجه القصور الهيكليّة

لإنشاء إطار موحّد وفعّال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، يجب على لبنان معالجة أوجه القصور الهيكلية هذه من خلال إصلاحات مستهدفة:

– ينبغي إلزام المصارف ببذل العناية المعزّزة الواجبة على الشركات التي تحدّد السلطات الضريبية أو التنظيمية أنّها عالية المخاطر. ومن شأن هذا التدقيق الإضافي أن يساعد المؤسّسات المالية على رصد المخاطر المرتبطة بالعملاء ذوي المخاطر العالية وتخفيفها بدقّة.

– إنّ مطالبة الشركات بالكشف عن حالة امتثالها الضريبي والتنظيمي أثناء المعاملات المالية سيسمح للبنوك بإجراء تقويمات مستنيرة للمخاطر، وهو ما يقلّل في النهاية من تعرّضها للجرائم المالية.

– من شأن وجود هيكل اتّصال مخصّص بين البنك المركزي والسلطات الضريبية وإنفاذ القانون والهيئات التنظيمية أن يسهّل تبادل البيانات في الوقت الفعليّ. وسيمكّن هذا التنسيق البنوك من إدارة مسؤوليّات الامتثال بشكل أكثر فعّالية، وهو ما يعزّز نظاماً بيئياً مرناً لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

– إنّ تنفيذ سياسات تكافئ الامتثال الكامل لمعايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، مثل الإعفاءات الضريبية أو الرسوم التنظيمية المخفّضة، إلى جانب العقوبات المفروضة على عدم الامتثال، يمكن أن يشجّع على التحوّل الثقافي نحو المساءلة في قطاع الأعمال الخاصّ في لبنان.

يشكّل العملاء غير الممتثلين الذين يحاولون تجنّب هذا الإبلاغ خطراً على المؤسّسات المالية، حيث إنّ عدم الامتثال يمكن أن يؤدّي إلى عقوبات كبيرة

– يجب على البنك المركزي إصدار مبادئ توجيهية محدّثة خصيصاً لإدارة العلاقات مع العملاء ذوي المخاطر العالية، بما في ذلك متطلّبات الإبلاغ للشركات قيد التحقيق والالتزام بوقف بعض المعاملات حتى تتمّ الموافقة عليها من قبل السلطات المختصّة.

– بوسع هيئة مستقلّة أن تشرف على سلوك الشركات وعلاقاتها مع المؤسّسات المالية، وسدّ الفجوة بين الشركات الخاصّة والبنوك والهيئات التنظيمية. وستضمن هذه الهيئة تطبيق معايير الامتثال بشكل موحّد وحصول البنوك على الدعم اللازم لإدارة العلاقات العالية المخاطر بفعّالية.

إقرأ أيضاً: الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

الحاجة إلى استراتيجية متماسكة

تؤكّد المسؤوليّات الجماعية للمشرّعين والمصرف المركزي والمؤسّسات المالية ومجتمع الأعمال على الحاجة إلى استراتيجية متماسكة للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في لبنان. وللانتقال إلى ما هو أبعد من القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي ونحو مستقبل ماليّ آمن، يجب على كلّ مؤسّسة وكلّ قطاع اتّخاذ خطوات فعّالة لمكافحة الجريمة المالية. ونحثّ واضعي السياسات والبنوك على قيادة هذا التحوّل من خلال تعزيز السياسات، وتعزيز التواصل بين الوكالات، وغرس ثقافة الامتثال داخل مجتمع الأعمال. ومن خلال بناء إطار موحّد، لا يمكن للبنان تلبية المعايير الدولية فحسب، بل يمكنه أيضاً تعزيز الاستقرار الاقتصادي الوطني والقدرة على الصمود.

 

* باحث في الشؤون الاقتصاديّة والنقديّة.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…