الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مدة القراءة 7 د

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية، إذ يجب اعتماد قواعد اشتباك جديدة في القطاع المالي، لجذب الأموال الضرورية لإعادة الإعمار وتوجيهها بمسؤولية. ويتطلّب ذلك تنسيقاً دقيقاً بين المشرّعين والبنك المركزي والمؤسّسات المالية ومكوّنات القطاع الخاص (مجتمع الأعمال) لسدّ الثغرات التنظيمية وتعزيز الرقابة، وضمان الشفافية. ومن خلال الالتزام بالمعايير الدولية، يستطيع لبنان استعادة الثقة وحماية مستقبله الاقتصادي، وبناء نظام ماليّ مرن قادر على دعم إعادة الإعمار بنجاح.

 

إنّ إدراج لبنان على القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF) يسلّط الضوء على التحدّيات العميقة الجذور في قطاعه المالي وهيكله الاقتصادي. وعلى الرغم من أنّ المسؤولية الأساسية لتحقيق معايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب تقع على عاتق المشرّعين الذين لم يصدروا حتى كتابة هذه الكلمات بياناً رسمياً بشأن قرار مجموعة العمل المالي، ولا حتى خطّة عمل للخروج من القائمة الرمادية، فإنّ هناك أصحاب مصلحة رئيسيّين آخرين يشاركون في هذه المسؤولية.

يلعب دوراً مهمّاً المصرفُ المركزي الذي يبذل جهوداً كبيرة للحفاظ على علاقات مثمرة مع المصارف المراسلة وتعزيز الروابط المالية العالمية في لبنان، بينما تؤدّي المؤسّسات المالية أيضاً أدواراً جوهرية. ومع ذلك، هناك عنصر حاسم رابع غالباً ما يُغفل عنه، وهو سلوك مجتمع الأعمال في لبنان، وأقصد بذلك القطاع الخاص.

مع التحوّل الكبير نحو التعاملات النقدية لتمويل الأنشطة الاقتصادية المحلّية، زادت استقلالية قطاع الأعمال، وهو ما يشكّل تحدّياً أمام تحقيق الامتثال. سنستعرض هنا دور كلّ صاحب مصلحة، مع التركيز على سلوك مجتمع الأعمال لأنّه عنصر أساسي لتحقيق الامتثال لمجموعة العمل المالي، وتعزيز النزاهة المالية للبنان، وحماية مكانته المالية العالمية.

تشكّل الشركات التي تشارك في التهرّب الضريبي أو غيره من أنشطة عدم الامتثال التنظيمي، مخاطر مباشرة وغير مباشرة على المؤسّسات المالية

معالجة أوجه القصور

الجدير بالذكر أنّ الخروج من القائمة الرمادية لا يضمن عدم العودة إليها في التقويمات المستقبلية. إذ تعتمد مجموعة العمل المالي (FATF) منهجية تتطلّب من الدول معالجة أهمّ أوجه القصور كخطوة أولى للخروج من هذه القائمة. بيد أنّ هذه الخطوة لا تعني إغفال باقي أوجه القصور التي تظلّ تحت المراقبة والتقويم المستمرّ.

في هذا السياق، يتوجّب على لبنان، عند معالجته لأهمّ أوجه القصور، أن يلتزم بمستوى عالٍ من المصداقية والجدّية لضمان أن لا تكون التحسينات المُستحدثة مجرّد حلول مؤقّتة، بل خطوات راسخة تهدف إلى تحقيق امتثال طويل الأمد.

إضافة إلى ذلك، ليست توصيات فريق المراجعة ملزِمة للمقوّمين في التقويمات المتبادلة المقبلة، وهو ما يعني أنّ استيفاء المعايير الضرورية بشكل سطحي قد يعرّض لبنان للعودة إلى القائمة الرمادية مستقبلاً.

غسل الأموال

لذلك اعتماد إجراءات فعّالة ومستدامة، بدلاً من مجرّد إجراءات مؤقّتة لإرضاء المتطلّبات الآنيّة، هو العامل الأساسي الذي سيؤكّد جدّية لبنان في حماية نظامه المالي وتعزيز ثقة المجتمع الدولي بجهوده. إنّ بناء آليّات مراقبة وتطوير تدريجية ومستدامة، مع التزام كلّ الأطراف المعنيّة، يمثّل السبيل الأمثل للحفاظ على هذه المكاسب وضمان استدامتها.

يشكّل فهم المسؤوليّات في الامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب نقطة انطلاق جيدة وضرورية.

سدّ الفجوات التّشريعيّة

المشكلة: حالياً، تسمح الثغرات التشريعية باستمرار غسل الأموال وتمويل الإرهاب والجرائم المالية الأخرى. يتطلّب الإطار القانوني اللبناني، على الرغم من شموله، تعزيزاً، لا سيما في مجالات شفافية الملكية النفعية والإشراف على القطاعات العالية المخاطر.

المسؤولية: يجب على المشرّعين العمل على سدّ هذه الثغرات من خلال تشريعات قويّة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ومواءمتها مع المعايير الدولية.

مقاربة المعالجة: إعطاء الأولويّة للإصلاحات القانونية التي تمكّن السلطات من إنفاذ قوانين مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب بشكل فعّال، وضمان تلبية البنية التحتية القانونية والمالية لتوقّعات مجموعة العمل المالي.

يشكّل فهم المسؤوليّات في الامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب نقطة انطلاق جيدة وضرورية

الرّقابة والإنفاذ: مصرف لبنان

المشكلة: يلعب البنك المركزي دوراً رئيسياً في الامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، لكنّه يواجه تحدّيات في فرض رقابة صارمة على المؤسّسات المالية.

المسؤوليّة: يتعيّن على مصرف لبنان بكلّ مكوّناته أن يعزّز إشرافه على البنوك، وأن يضمن قيامها ببذل العناية الواجبة، والإبلاغ عن الأنشطة المشبوهة، واتّباع العقوبات الدولية.

مقاربة المعالجة: يحتاج مصرف لبنان إلى تعزيز قدراته على إجراء عمليات تدقيق صارمة، وفرض عقوبات على عدم الامتثال، والتنسيق الوثيق مع الهيئات التنظيمية الأخرى.

تنفيذ الخطوط الأماميّة: المؤسّسات الماليّة

المشكلة: المؤسّسات المالية مسؤولة عن التطبيق العملي لتدابير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، لكنّ بعضها قد يفتقر إلى الهياكل الأساسية اللازمة للكشف عن المعاملات المشبوهة والإبلاغ عنها بفعّالية.

المسؤوليّة: يجب على البنوك تنفيذ أنظمة قويّة للعناية الواجبة للعملاء (CDD) وحفظ السجلّات وإعداد التقارير للامتثال لقوانين مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

مقاربة المعالجة: يجب على المؤسّسات المالية الاستثمار في أنظمة الامتثال، وضمان تدريب موظّفيها بشكل صحيح، والتعاون مع الجهات التنظيمية لدعم جهود مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

مجتمع الأعمال – القطاع الخاصّ

المشكلة: غالباً ما يفتقر مجتمع الأعمال، ولا سيما القطاعات المعرّضة لغسل الأموال، مثل مجال العقارات والمعادن الثمينة والسلع الكماليّة، إلى الوعي الكافي لقواعد مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وتدابير الامتثال. وهذا يخلق مخاطر لأنشطة غسل الأموال وتمويل الإرهاب التي تستغلّ هذه القطاعات، وهو ما يقوّض الاستقرار الاقتصادي وسمعة لبنان العالمية.

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال

المسؤوليّة: يجب على مجتمع الأعمال أن يعترف بدوره في الامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وأن يتبنّى بنشاط تدابير لمنع الجرائم المالية في عمليّاته. يجب على الشركات المشاركة في تقويمات المخاطر وضمان الشفافية في المعاملات، لا سيما في القطاعات العالية القيمة.

مقاربة المعالجة: يجب على كلّ مكوّنات القطاع الخاصّ وضع سياسات داخلية للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، بما في ذلك العناية الواجبة الشاملة وتدريب الموظّفين على تحديد الأنشطة المشبوهة والإبلاغ عنها. ومن شأن التعاون مع المؤسّسات المالية والهيئات التنظيمية لتبادل المعلومات وتعزيز معايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب الخاصّة بكلّ قطاع، أن يزيد من تعزيز هذه الجهود.

علاوة على ذلك، يؤثّر أداء وسلوك مكوّنات القطاع الخاصّ في لبنان بشكل كبير على فعّالية تدابير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ويؤثّر على المؤسّسات المالية على جبهات متعدّدة. تشكّل الشركات التي تشارك في التهرّب الضريبي أو غيره من أنشطة عدم الامتثال التنظيمي، مخاطر مباشرة وغير مباشرة على المؤسّسات المالية. يمكن للمصارف أن تسهّل عن غير قصد العمليات الماليّة لهذه الشركات، معرّضة نفسها لمخاطر قانونية وماليّة ومخاطر تتعلّق بالسمعة تمتدّ إلى ما وراء حدود لبنان.

إقرأ أيضاً: لبنان على القائمة الرمادية: إبحار المصارف في حالة عدم اليقين(2/2)

يتطلّب دعم لبنان لتدابير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، تكامل جهود المشرّعين والبنك المركزي والمؤسّسات المالية ومجتمع الأعمال. ومع تفاقم التحدّيات، يجب على كلّ طرف الوفاء بمسؤوليّاته لضمان الاستقرار الماليّ للبلاد. في الجزء الثاني، سنستعرض السبل الممكنة لبناء إطار موحّد وفعّال للامتثال، وكيف يمكن للبنان التحرّك نحو مستقبل أكثر أماناً واستقراراً.

*في الحلقة الثانية: استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النقدي

 

* باحث في الشؤون الاقتصاديّة والنقديّة.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…