لبنان على القائمة الرمادية: إبحار المصارف في حالة عدم اليقين(2/2)

مدة القراءة 9 د

بعدما عرضت الحلقة الأولى من التقرير، تداعيات إدراج لبنان على القائمة الرمادية، تتناول الحلقة الثانية الإجراءات التفصيلية التي ستترتب على هذه الخطوة، سواء في ما يخصّ التأثير عىل العملاء أو المصارف اللبنانية. اذ سيؤدي إدراج مجموعة العمل المالي لبنان على القائمة الرمادية إلى بيئة مصرفية أكثر تقييداً. وسيواجه العملاء عقبات أكبر في إجراء المعاملات الدولية، في حين ستتعرض البنوك لضغوط لتعزيز الامتثال للاحتفاظ بالعلاقات المصرفية الدولية الحيوية.

 

سيُطبّق التدقيق المعزز، نتيجة لقرار مجموعة العمل المعنية بالإجراءات المالية، على نطاق واسع على جميع المعاملات المالية عبر الحدود. ويزيد الإدراج على القائمة الرمادية من متطلبات امتثال المصارف اللبنانية في جميع المعاملات الدولية، ما يدفعها إلى تطبيق ضوابط أكثر صرامة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في جميع المجالات. هذا يعني:

– متطلبات التوثيق. سيحتاج جميع العملاء، سواء كانوا أفراداً أو شركات أو مستوردين أو مصدّرين، إلى تقديم وثائق جوهرية توضح مصدر الأموال للمعاملات الدولية بدلاً عن الإكتفاء بالتصريح.

– زيادة تكاليف المعاملات. ومن المرجح أن تؤدي عمليات الامتثال الإضافية إلى زيادة تكاليف المعاملات، ما يؤثر على جميع المدفوعات عبر الحدود، وليس فقط تلك التي يقوم بها الأفراد.

– التأخير وأوقات المعالجة. ستؤدي العناية الواجبة الأكثر صرامة إلى إطالة مهلة المعالجة لجميع التحويلات الدولية، ما يؤثر على كل من المعاملات الشخصية الروتينية والمعاملات الأكبر المتعلقة بالتجارة.

هذه التدابير هي جزء من الآثار الأوسع نطاقاً لإدراج مجموعة العمل المالي على القائمة الرمادية، ما يؤثر على بيئة المعاملات عبر الحدود بشكل عام في لبنان.

سيؤدي قرار المجموعة (FATF) إلى زيادة متطلبات الامتثال، الأمر الذي قد يبطئ أو يقيد معاملات البطاقات الصادرة عن لبنان، لا سيما في السياقات العابرة للحدود

التأثير على عملاء المصارف اللبنانية

– الأفراد. بالنسبة للعملاء الأفراد، من المرجح أن تقدم القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي ضوابط أكثر صرامة على المعاملات الشخصية، خصوصاً التحويلات الدولية. سيطلب من المصارف اللبنانية تعزيز تدقيقها في المعاملات وتطبيق تدابير شاملة لمكافحة غسل الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب. قد يواجه العملاء تأخيرات في التحويلات ومتطلبات توثيق متزايدة (سينتقل فحص العملاء من مجرد التصريح إلى إظهار مصدر التمويل)، وارتفاع تكلفة المعاملات خصوصاً بالنسبة للمدفوعات عبر الحدود. وقد يؤثر ذلك على المغتربين اللبنانيين الذين يدعمون أسرهم أو أولئك الذين يحتاجون إلى إرسال الأموال إلى الخارج لتغطية النفقات الأساسية.

– المستوردون والمصدّرون. ستواجه الشركات المشاركة في الواردات والصادرات تحديات متزايدة بسبب متطلبات المراقبة المتزايدة المرتبطة بالقائمة الرمادية. قد تخضع المعاملات المالية مع الشركاء الدوليين للتأخير، والعناية الواجبة المعززة، وربما الرسوم الإضافية. وقد يجد المستوردون والمصدرون صعوبة أكبر في إقامة علاقات دولية والحفاظ عليها، لأنّ المصارف المراسلة في بلدان أخرى قد تنظر إلى المعاملات المصرفية اللبنانية على أنها عالية المخاطر. قد يؤدي هذا التدقيق الإضافي إلى ارتفاع تكاليف التشغيل، وإطالة أوقات معالجة المدفوعات التجارية، والقيود المفروضة على أنواع المعاملات المسموح بها.

التأثير على المصارف اللبنانية

– علاقات البنوك المراسلة. يثير الإدراج على القائمة الرمادية مخاوف كبيرة للمصارف اللبنانية، لا سيما في الحفاظ على علاقات المراسلة المصرفية وتأمينها. وفي حين نجحت بعض المصارف اللبنانية في الحفاظ على علاقات قوية مع المصارف المراسلة الدولية بعد التخلف عن السداد في آذار 2020، يضيف قرار مجموعة العمل المالية ضغوطاً على هذه العلاقات. ويمكن للبنوك التي تنجح في الامتثال الصارم لمعايير المجموعة (FATF) المحدثة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب أن تتجنب قطع علاقات المراسلة، ولكن فقط إذا حافظت على أطر امتثال قوية تطمئن نظيراتها الأجنبية. ومع ذلك، بالنسبة للبنوك التي تكافح بالفعل مع الامتثال، قد يؤدي قرار مجموعة العمل المالي إلى تكثيف خطر فقدان خدمات المراسلة المصرفية، والحد من الوصول إلى تسويات العملات الأجنبية وإعاقة المعاملات عبر الحدود الضرورية لعملائها.

سيؤثر إدراج لبنان على القائمة الرمادية من قبل مجموعة العمل المالي بالفعل على استخدام بطاقات الائتمان والخصم الصادرة عن البنوك اللبنانية

– الإيداعات مع البنوك غير المقيمة. من المرجح أن تواجه المصارف اللبنانية التي تودع ودائع أو تدير حسابات لدى مصارف غير مقيمة، تدقيقاً متزايداً في ما يتعلق بشرعية الأموال ومصدرها. قد تفرض المصارف غير المقيمة عناية واجبة أكثر صرامة ومراقبة مستمرة على الأموال الواردة من المؤسسات المالية اللبنانية. وقد يؤدي ذلك إلى خيارات أقل للمصارف اللبنانية لإجراء معاملات في الخارج، ما قد يؤثر على السيولة ويزيد من انخفاض احتياطيات العملات الأجنبية. وقد تحتفظ البنوك التي لديها تدابير امتثال قوية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ببعض هذه الإيداعات ولكنها ستحتاج إلى إظهار تحسينات مستمرة لتتماشى مع توصيات مجموعة العمل المالي.

استخدام بطاقات الائتمان والسحب الآلي

سيؤثر إدراج لبنان على القائمة الرمادية من قبل مجموعة العمل المالي بالفعل على استخدام بطاقات الائتمان والخصم الصادرة عن البنوك اللبنانية، ما يؤثر على المعاملات المحلية وعبر الحدود على حد سواء:

1- معاملات البطاقات عبر الحدود

بالنسبة للمدفوعات عبر الحدود، من المرجح أن تواجه المصارف اللبنانية قيوداً جديدة من معالجي المدفوعات الدوليين والبنوك المراسلة. قد تخضع المعاملات التي تنطوي على بطاقات ائتمان (Credit Card) أو دفع (Debit Card) من المصارف اللبنانية لتدقيق إضافي، ما يؤدي إلى:

– التأخير والرفض. قد تواجه بعض المعاملات عبر الحدود تأخيرات، وفي بعض السيناريوهات العالية المخاطر، قد يتم رفض المعاملات إذا اعتبرت الكيانات الأجنبية أنّ البطاقات الصادرة عن لبنان تنطوي على مخاطر عالية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

– زيادة عمليات التحقق من الامتثال. قد يحتاج التجار الأجانب، لا سيما في الولايات القضائية ذات الأنظمة الصارمة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، إلى وثائق إضافية للتحقق من شرعية معاملات البطاقات من العملاء اللبنانيين، ما قد يعقد عمليات الشراء عبر الإنترنت ونفقات السفر الدولية.

بالنسبة للعملاء الأفراد، من المرجح أن تقدم القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي ضوابط أكثر صرامة على المعاملات الشخصية، خصوصاً التحويلات الدولية

– رسوم أعلى. يمكن أن تؤدي فحوصات الامتثال الإضافية إلى ارتفاع رسوم المعاملات لحاملي البطاقات اللبنانيين عند إجراء عمليات شراء دولية، حيث قد تقوم الكيانات الأجنبية بتمرير التكاليف المتعلقة بالامتثال.

2- معاملات البطاقات المحلية

في لبنان، سيتم احتواء تأثير القائمة الرمادية على معاملات بطاقات الائتمان والدفع إلى حد ما ولكنه لا يزال قائماً:

– متطلبات الرصد والتوثيق. قد تفرض المصارف اللبنانية رقابة إضافية على معاملات البطاقات لتتماشى مع متطلبات مجموعة العمل المالي المعززة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وفي حين أنّ هذا الأمر قد لا يؤثر على المعاملات المحلية اليومية، فإنّ عمليات الشراء العالية القيمة أو المعاملات الكبيرة المتكررة قد تؤدي إلى اتخاذ تدابير امتثال إضافية، ما يؤدي إلى تأخيرات أو طلبات للحصول على مزيد من الوثائق.

– انخفاض الوصول إلى الخدمات الأجنبية. قد تواجه البطاقات اللبنانية المستخدمة في عمليات الشراء المحلية التي تتطلب معالجة دولية (مثل بعض الاشتراكات عبر الإنترنت أو المنصات المملوكة لأجانب) قيوداً أو انقطاعاً في الخدمة إذا حدّت البنوك الأجنبية أو معالجو الدفع من التعامل مع المؤسسات المالية اللبنانية.

3- إصدار البطاقات الجديدة والتجديدات

قد يؤثر الإدراج في القائمة الرمادية على سياسات إصدار البطاقات في المصارف اللبنانية، لا سيما إذا أعادت بعض المصارف المراسلة أو شبكات الدفع تقييم شراكاتها:

– معايير إصدار أكثر صرامة. قد تفرض المصارف اللبنانية ضوابط أكثر صرامة على “اعرف عميلك” و”مصدر الأموال” عند إصدار بطاقات ائتمان أو دفع جديدة، لأنّها تهدف إلى التخفيف من مخاطر الامتثال. قد يحتاج العملاء إلى تقديم وثائق محسّنة، ما قد يؤدي إلى إبطاء عمليات التقديم والتجديد.

– القيود المفروضة على الإنفاق الأجنبي. قد تحد بعض المصارف اللبنانية بشكل استباقي من قدرات الإنفاق الأجنبي على البطاقات الصادرة حديثاً أو المجددة لإدارة التعرض لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب عبر الحدود، لا سيما في القطاعات العالية المخاطر أو الولايات القضائية التي تخضع لتدقيق أكثر صرامة في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

يثير الإدراج على القائمة الرمادية مخاوف كبيرة للمصارف اللبنانية، لا سيما في الحفاظ على علاقات المراسلة المصرفية وتأمينها

سيؤدي قرار المجموعة (FATF) إلى زيادة متطلبات الامتثال، الأمر الذي قد يبطئ أو يقيد معاملات البطاقات الصادرة عن لبنان، لا سيما في السياقات العابرة للحدود.

استنتاج

في الختام، يؤكد إدراج لبنان على القائمة الرمادية من قبل مجموعة العمل المالي (FATF) على الحاجة الملحة للتحرك السريع للخروج من هذه القائمة والالتزام الكامل بمعايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. بينما يواجه لبنان تحديات سياسية واقتصادية معقدة، يأتي تصنيف FATF بتداعيات أكثر تأثيراً بكثير من التصنيف الائتماني أو حتى من رأي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بشأن لبنان.

لمواجهة هذه التداعيات، يجب على القطاع المصرفي اللبناني أن يعطي الأولوية للمواءمة السريعة مع توصيات FATF وتعزيز تدابير الامتثال والشفافية والحوكمة. فالتزام استباقي بهذه المعايير سيكون ضرورياً لاستعادة ثقة الشركاء الدوليين وضمان استمرارية الوصول إلى الشبكات المالية العالمية.

إقرأ أيضاً: لبنان على القائمة الرّماديّة: تحدّيات ومنافذ (1/2)

على الرغم من أن المسار قد يبدو صعباً، إلا أنّ تجارب التعافي السابقة للبنان من أوضاع مماثلة تشير إلى أنّ الإصلاح الجاد ممكن. إنّ معالجة التحديات النظامية التي أدت إلى إدراجه ليس ضرورياً فقط للامتثال لمعايير FATF، بل لبناء قطاع مالي مرن وقادر على دعم الانتعاش الاقتصادي وإعادة اندماج لبنان على الساحة الدولية.

 

* باحث في الشؤون الإقتصادية والنقدية

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…