ليست المرّة الأولى التي يواجه فيها لبنان تدقيقاً دولياً بشأن ممارساته الماليّة بفعل إدراجه على القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF). وقد سبق له أن أُدرج مطلع عام 2000، وهو ما جلب تحدّيات فورية لقطاعه المصرفي. ومع ذلك، ومن خلال الإصلاحات التنظيمية الاستراتيجية، تمكّنت البلاد من استعادة وتعزيز سمعتها في النظام المالي الدولي. أظهر هذا الانتعاش المبكر قدرة لبنان على التكيّف مع المعايير العالمية، لكنّ إدراجه حاليّاً يحصل في بيئة أكثر تعقيداً إلى حدّ كبير تسبّبت بها مرحلة من الاضطرابات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
أصبح النظام المالي اللبناني متشابكاً بعمق مع المشهد السياسي المضطرب. أدّت القضايا المستمرّة، مثل الجمود السياسي والفساد المستشري والرقابة التنظيمية المحدودة، إلى تآكل الثقة في حوكمة الأمّة، وهو ما أثّر في النهاية على القطاع المصرفي. تزيد المخاطر الجيوسياسية من تعقيد موقف لبنان، حيث تفرض التوتّرات الإقليمية والتأثيرات الدولية المتنافسة ضغوطاً مستمرّة على مؤسّساته المالية. وقد بلغت هذه الديناميّات ذروتها في نقاط ضعف نظامية تتحدّى الآن قدرة لبنان على الالتزام بالمعايير العالمية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب بشكل فعّال.
واليوم، بينما تواجه المصارف اللبنانية تدقيقاً متزايداً من نظيراتها الدولية وإمكانية الحدّ من المخاطر، تؤكّد القائمة الرمادية على الحاجة إلى إصلاحات جوهرية ومستدامة. تُظهر تجربة لبنان السابقة أنّ التعافي ممكن، لكنّ تحقيقه في السياق الحالي سيتطلّب التزاماً متجدّداً بالشفافية والمساءلة والقدرة على الصمود وسط هذه التحدّيات الجيوسياسية والداخلية.
التّداعيات على المصارف اللّبنانيّة
بعد إدراج لبنان على القائمة الرمادية من قبل مجموعة العمل المالي، تواجه البنوك اللبنانية الآن حالة من عدم اليقين المتزايد في انتظار قرارات مجالس إدارة البنوك المراسلة. ومن المرجّح أن تعيد هذه المجالس تقويم شروط المشاركة ومستويات تحمّل المخاطر لاستيعاب ملفّ مخاطر مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب المرتفع في لبنان. هذه الفترة العاجلة حاسمة، حيث يمكن أن تشهد المصارف اللبنانية تعديلات تؤثّر على العمليات المحلّية والدولية على حدّ سواء.
تواجه المصارف اللبنانية تدقيقاً متزايداً من نظيراتها الدولية وإمكانية الحدّ من المخاطر، تؤكّد القائمة الرمادية على الحاجة إلى إصلاحات جوهرية ومستدامة
1- التأثير على قواعد الاشتباك. قد تقوم البنوك المراسلة بمراجعة شروط المشاركة الخاصة بها، وإدخال مراقبة معزّزة أو قيود لإدارة مخاطر مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. ستؤثّر إعادة التقويم هذه على كلّ من البنوك اللبنانية المحلّية وتلك التي لها فروع في الخارج، حيث تقوم البنوك المراسلة بتعديل متطلّبات الامتثال عبر الولايات القضائية.
2- الرغبة في المخاطرة والتسامح. من المرجّح أن يؤدّي إدراج مجموعة العمل المالي لبنان في القائمة الرمادية للبنوك المراسلة إلى خفض مستويات تحمّل مخاطر الامتثال مع البنوك اللبنانية. وعلى الرغم من أنّ تقويمات مخاطر الائتمان قد تظلّ ثابتة، إلا أنّ مخاطر الامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ستواجه تدقيقاً أكثر صرامة، لا سيما في المراكز المالية العالية المخاطر. ويمكن للمصارف اللبنانية التي لديها أطر قويّة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب أن تحافظ على هذه الشراكات، شريطة أن تتماشى بشكل وثيق مع خطّة عمل مجموعة العمل المالي وأن تظهر امتثالاً صارماً.
3- تقويم المخاطر المتباينة. في حين أنّ سياسات مخاطر الائتمان قد تظلّ من دون تغيير في البداية، فإنّ مخاطر الامتثال لمكافحة غسل الأموال ستخضع لمراجعة مكثّفة، وهو ما قد يغيّر جدوى التدفّقات المالية عبر الحدود. قد تفرض المصارف المراسلة التي تحافظ على علاقات مع المصارف اللبنانية شروطاً متميّزة لمخاطر الائتمان مقابل الامتثال لمكافحة غسل الأموال، مع تقسيم شروط المشاركة وفقاً لذلك.
4- إمكانية التخلّص من المخاطر. يزيد الإدراج على القائمة الرمادية من خطر الحدّ من المخاطر، حيث قد تحدّ البنوك المراسلة أو تقطع علاقاتها مع البنوك اللبنانية التي تعتبر عالية المخاطر. وبالنسبة للمصارف في لبنان، يؤكّد التهديد بالحدّ من المخاطر على الحاجة الملحّة للتوافق مع توصيات مجموعة العمل المالي وتعزيز معايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وقد يؤدّي عدم القيام بذلك إلى دفع العملاء اللبنانيين نحو القنوات المالية غير المنظّمة، وهو ما يضاعف من مخاطر الامتثال ويزيد من تقويض الاستقرار المالي.
في نهاية المطاف، يعتمد مستقبل المصارف اللبنانية مع مراسليها على تفاوت شهيّة مجالس الإدارة للمخاطر وأولويّات الامتثال
تفاوت الشّهيّة للمخاطر
في نهاية المطاف، يعتمد مستقبل المصارف اللبنانية مع مراسليها على تفاوت شهيّة مجالس الإدارة للمخاطر وأولويّات الامتثال. ومن المرجّح أن يدقّق أعضاء مجالس إدارة المصارف المراسلة في تعرّضها للمخاطر التي تواجه المصارف اللبنانية، لتقويم مخاطر الامتثال والسمعة المتزايدة المرتبطة بالولاية القضائية المدرجة في القائمة الرمادية. إذا كان تحمّلهم للمخاطر منخفضاً، فقد يفرضون تدقيقاً إضافياً، أو يطالبون بضمانات امتثال أعلى، أو حتى يحدّون من الخدمات أو يسحبونها.
من ناحية أخرى، قد تقرّر مجالس الإدارة التي تتمتّع بقدرة أعلى على تحمّل المخاطر أو باستراتيجيات تخفيف المخاطر المعمول بها، الحفاظ على هذه العلاقات. في الأساس، تخضع المصارف اللبنانية بالفعل لدرجات متفاوتة من النفور من المخاطر وأولويات الامتثال بين مجالس إدارة البنوك المراسلة، وهو ما يجعل القائمة الرمادية عاملاً حاسماً لكن ليست بالضرورة عاملاً موحّداً في جميع البنوك المراسلة. والواقع أنّ إدراج لبنان على القائمة الرمادية يمكن أن يغيّر ديناميكيات المخاطر لدى المصارف المراسلة، لا سيما في ما يتعلّق بالامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وهو ما يجبر المصارف اللبنانية على التكيّف بسرعة للحفاظ على هذه العلاقات الدولية الحيوية.
إقرأ أيضاً: لا تنصتوا للشّائعات: الدّولار مستقرّ
مع استمرار تزايد التحدّيات التي تواجه المصارف اللبنانية نتيجة إدراج لبنان على القائمة الرمادية، تظهر تداعيات إضافية تطال العملاء والمصارف على حدّ سواء. فما هي المتطلّبات الإضافية للامتثال؟ وكيف يمكن أن تؤثّر على العمليات المصرفية والمعاملات المالية؟ هذا ما سنستعرضه في الجزء الثاني غداً.
* باحث في الشؤون الاقتصادية والنقدية.