هي رسالة نرسلها من بيروت إلى غزة، من مدينة قلقة على غدها من أن يكون مصيرها الدمار، إلى مدينة مدمّرة لم يعد فيها ما يستحقّ الانتظار سوى رمال الشاطئ وماء البحر. رسالة نرسلها إلى يحيى السنوار لعلّها تصل دون مخاطر أمنيّة بكشف مكانه. الرجل عاد إلى حيث قضى في سجن الاحتلال 23 عاماً، إلى داخل فلسطين المحتلّة بعدما أسلم الروح إلى الخالق الجبّار.
أبا إبراهيم.. لا يحقّ لك أن تفعل بنا كلّ ما فعلت من هذين الإرباك والإحراج. وعدتنا بالنصر ليوم واحد وبضع ساعات. أيقظتنا باكراً قبل سنة وبضعة أيام. اعتقدنا أنّ أحلامنا تحقّقت، ولم نسأل في حينه من اتّخذ هذا القرار؟ احتفلنا مع المحتفلين، لوّحنا بالرايات وأنشدنا نشيد الانتصار. فجأة ذهبت بنا هاربين هرولة من الدبّابة والطائرة الإسرائيلية لنعيش تحت القصف وبين لهيب النار.
لقد استدرجتنا يا يحيى إلى أحلام اليقظة ثمّ ذهبت بنا سريعاً إلى كوابيس، وفي الحالتين دون أن نختار. فما شبعنا من الأحلام الوردية، وما زلنا حتى هذه اللحظة نتخبّط بعوارض الكوابيس وثقل هذا الانتظار.
كأنّك يا يحيى تخصّصت ببناء قصور الرمل على شواطئ غزة كالأطفال، ثمّ تذهب لتجلس قربها منتظراً موج البحر كي يبتلعها متمتّعاً بهذا الانهيار.
لقد بالغت يا يحيى بإحراجنا نحن العرب كلّ العرب من المحيط إلى الخليج لبنانيين وسوريين وعراقيين مشرقيين وخلجان ومغاربة وصولاً إلى كلّ من نطق بلغة الضاد. لقد زدتنا ارتباكاً فوق كلّ ارتباكاتنا الأيديولوجية والتاريخية والإنسانية. لقد أحرجتنا في سجنك وفي حياتك، واليوم في لحظة موتك. مع من نقف في هذا الحدث الممزوج بالقهر والدمار؟ مع جثّتك أم مع قاتلك المحتلّ الذي لنا عنده ملايين الثارات؟
لقد استدرجتنا يا يحيى إلى أحلام اليقظة ثمّ ذهبت بنا سريعاً إلى كوابيس، وفي الحالتين دون أن نختار
ألف سؤال وسؤال..
لنا عندك يا يحيى ألف سؤال وسؤال وألف عتب وعتاب، وألف خصومة واستنكار. لكنّك كما عوّدتنا في حياتك تمارس القمع على القرار. ها أنت اليوم تتجاوز كلّ الاسئلة والعتاب والخصومة. فمن أطلق النار عليك هو الإسرائيلي. هو من أعلن اليوم علينا وعليك الانتصار.
هل يحقّ لنا يا يحيى أن نحزن عليك دون إحراج؟ هل من العدالة ألّا نشعر بالقهر ونحن نرى الإسرائيلي يعلن الانتصار؟ ما هذا الانفصام الذي وضعتنا فيه؟ نحزن اليوم، وبالأمس حمّلناك مسؤولية كلّ الخراب والدمار، ومسؤولية كلّ الدماء التي هدرت بغزة بكلّ مخيّماتها جباليا والشاطئ والنصيرات ورفح وغزة المدينة، ومسؤولية هذا الكمّ من الأيتام والأرامل والمعوّقين، وهذا الكمّ الهائل من الذلّ والهوان.
هل يحقّ لنا أن تتلبّسُنا المفاجأة والحيرة لنطرح سلسلة من الأسئلة عليك وعلى أنفسنا قبل أن توارى في الثرى أو قبل أن يحرّر المحتلّ جثّتك؟ ماذا سيحصل بعدك يا يحيى السنوار؟ نسألك وكأنّنا دون أن نعلم كنّا ننتقدك، وفي الوقت نفسه نراهن عليك بشيء أو بأشياء عجز عنها أجدادنا وأجدادك، الصغار والكبار. هل يعقل أن لا نملك الحقّ بالتشفّي أو السرور لموتك، فطبيعة البشر أن تهرب من خلف المهزوم لتقف خلف المنتصر، لكن من المهزوم هنا ومن المنتصر يا السنوار؟
فوق الأرض قتلت وتحت الأرض ستوارى في الثرى كما يوارى كلّ البشر الأحرار.
إقرأ أيضاً: مصرع السنوار في مشهد لا يحبّه نتنياهو
يا يحيى خذ الكتاب بقوّة. هكذا قالت الآية عندما خاطب الله نبيّه يحيى. فماذا نخاطبك وأنت ذاهب إلى خالقك دون أن تختار، كما ذهبت بنا إلى مآزقنا كلّها وبتنا نقتات الوجع كما يقتات الأطفال حليبهم في صبيحة كلّ نهار؟
ترحل يا يحيى، كما رحل من قبلك أبو عمّار وأحمد ياسين وأبو إياد وإسماعيل هنية. فالقضية باقية وقدرنا العربي أن نواصل الترحال.
لمتابعة الكاتب على X: