مات يحيى السنوار، رئيس حركة حماس منذ اغتيال سلفه إسماعيل هنية في 31 تموز الماضي، وهو يقاتل الجيش الإسرائيلي، في إحدى أسخن جبهات القتال في جنوب القطاع، وأكثرها ضراوة، تل السلطان في رفح. لم يكن مختبئاً في نفق عميق تحت الأرض، ومن حوله الأسرى الإسرائيليون أو من بقي منهم حيّاً، كما كان يردّد الإسرائيليون والأميركيون لتبرير العجز عن الوصول إليه طوال عام كامل، بل كان يتجوّل مع المقاتلين في ساحة اشتباك مع الإسرائيليين، لابساً سترة عسكرية، وفيها قنابل يدوية، بحسب ما جاء في الرواية الإسرائيلية.
لم يمتْ يحيى السنوار في عملية استخبارية معقّدة، وطبقاً لمعلومات أمنية ذات مصداقية عالية، وبسبب غارة جوية دقيقة، كما هي السردية الإسرائيلية، كلما تمكّنت من اغتيال قيادي كبير في حركة حماس أو حزب الله. بل كانت الضربة الجوية بناء على سياق عسكري بحت، حين اكتشفت القوات الإسرائيلية بواسطة الكاميرات المثبّتة على المسيّرات التي لا تغيب عن سماء القطاع، لجوء عدّة مقاتلين من حماس إلى أحد المباني. وعلى الفور، صدر الأمر بقصف المبنى، وهم لا يعرفون هويّة الرجال الذين فقدوا حياتهم جرّاء الضربة. ولم يأتِ جنود المشاة إلى الموقع كي يستكشفوه، ويعاينوا الإصابات، إلا بعد مراقبة دقيقة للموقع، وجثث القتلى. وعندما وصل الجنود أخيراً إلى الموضع، فوجئوا بجثة رجل تشبه كثيراً، العدو الأول لإسرائيل هذه الأيام، وتحديداً منذ طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول العام الماضي، يحيى السنوار. وتقول الرواية أيضاً، إنّ الإسرائيليون لم يتمكنوا من نقل جثة السنوار على الفور، لأن المكان مليء بالأفخاخ المتفجرة التي زرعها مقاتلو حماس مسبقاً.
ما كان معروفاً منذ إفشال النسخة الأخيرة من صفقة تبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس، أنّ نتنياهو أراد اتفاقاً آخر
لماذا لم يكن في النفق؟
أول سؤال يقفز إلى الذهن: ماذا كان يفعل زعيم حماس في ساحة المعركة، وفي مكان شديد الخطورة، محفوف بالموت أرضاً وجواً؟ لماذا لم يعتصم بأحد الأنفاق التي اشتُهر الحديث عنها في الأشهر الماضية؟ ولمَ يخاطر بنفسه، وهو القائد الأول، وعليه مسؤوليات كبرى، ليس أقلها إدارة المعركة والتفاوض مع إسرائيل عبر الوسطاء، من أجل إنجاز صفقة الأسرى والهدنة، وسط وضع إنساني بالغ الصعوبة والمأساوية، لم تشهده فلسطين حتى في عام 1948؟ هل كان خروجه من موقف ضعف عام أو من موقع الشجاعة والإقدام ولا مبالاة بالموت، سواء وقع عليه، أو وقع هو على الموت، كما كان يقال في عصر الصحابة، في زمن الشدّة والصبر، وسط قعقعة السلاح؟ لا أحد بمقدوره في هذه اللحظة المفصلية من حرب غزة، تقديم صورة دقيقة أو حتى مقارٍبة للواقع، في خضمّ تعتيم إعلامي إسرائيلي للأوضاع في غزة، وملاحقة متواصلة للمراسلين الغزّاوين، واغتيالهم الواحد تلو الآخر، دون هوادة، بهدف إسكات الصوت وإغلاق الصورة، فلا يرى العالم ما يجري حقاً هناك.
رفض الخروج سالماً من غزة
لكن ما كان معروفاً منذ إفشال النسخة الأخيرة من صفقة تبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس، أنّ نتنياهو أراد اتفاقاً آخر، غير كلّ ما كان الوسطاء المصريون والقطريون والأميركيون يناقشونه ويعدّلون فيه ويدرسونه آناء الليل وأطراف النهار. ما كان يريده نتنياهو هو استسلام حماس أي السنوار، والإفراج عن كلّ الإسرائيليين الأحياء في غزة، من دون الإفراج عن أيّ أسير فلسطيني. وهو بذلك، كان يصبو إلى تحقيق النصر الكامل على حماس، وعدم تكرار ما حدث في السنوات الفائتة، من صفقات تبادل مع الفلسطينيين، كانت كلها دون استثناء، لمصلحة الطرف الفلسطيني لا الإسرائيلي، لا سيما عملية “وفاء الأحرار” عام 2011، والتي خرج بموجبها يحيى السنوار مع أكثر من ألف فلسطيني، مقابل الإفراج عن جندي إسرائيلي واحد، هو جلعاد شاليط.
لم يكن يحيى السنوار ليكرّر تجربة عرفات في هذا المجال، ولا أن يتخلّى عن شعور الحريّة في غزة، بعدما حُرم منه لأكثر من 22 عاماً في سجون الاحتلال
لكن مع اشتداد عمليات المقاومة في القطاع، على الرغم من كلّ الضربات الشديدة التي تلقّاها الفلسطينيون مدنيين ومقاومين، أطلق نتنياهو نسخة محدّثة، وهي لا تُرضي حلفاءه من اليمين المتطرف؛ إذ عرض عبر الوسطاء، خروجاً آمناً للسنوار، ومن شاء الخروج معه من القطاع، من مناصري حماس والفصائل الأخرى، ومن عدد لا يُحصى ممن لا يأمنون على أنفسهم، إذا بقوا في غزة، المجرّدة من أنفاقها، ومن سلاحها المصنّع محلّياً، والأهم من مقاتليها الأشدّاء؛ لكأنّ نتنياهو كان يعرض على عدوه مصيراً كمصير الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، حين حوصر في بيروت، مع آلاف المقاتلين.
إقرأ أيضاً: ماذا فعل السّنوار بالعالم وتوازناته؟
لم يكن السنوار ليكرّر تجربة عرفات في هذا المجال، ولا أن يتخلّى عن شعور الحريّة في غزة، بعدما حُرم منه لأكثر من 22 عاماً في سجون الاحتلال. كانت المعادلة الأخيرة: السلامة الشخصية للسنوار ورفاقه ومن شاء من أهل غزة، وخروجهم آمنين من القطاع إلى حيث يريدون أو من تقبل بهم من دول شقيقة أو صديقة، مقابل الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين. وهو رفض ذلك دون نقاش، وبقي حتى اللحظة الأخيرة من حياته، مصرّاً على مطالب الحدّ الأقصى، وهي الإفراج عن كلّ الأسرى الإسرائيليين، مقابل عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين، إن لم يكن تصفير السجون ممكناً، مع الانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع، وتقديم الضمانات بتعمير القطاع من جديد، وقد بات أثراً بعد عين.
لقد حُرم نتنياهو من متعة القضاء على عدوه اللدود بضربة دقيقة صنعتها ماكينة الذكاء الاصطناعي، فيزداد غروراً على غرور. ولم يترك السنوار لعدوه فرصة اختيار الزمان والمكان لرحيلٍ كان قد أصبح مرجّحاً بشدّة منذ طوفان الأقصى. لقد ذهب رجل الأسرار بالطريقة التي يتمناها هو، لا بالمشهد الذي يهواه نتنياهو.
لمتابعة الكاتب على X: