دولة فلسطين الموحّدة للقضاء على الدّولة

مدة القراءة 6 د

لو كنت تدرين ما ألقاه من شجن   لكنت أرفق من آسى ومن صفحا

غداة لوّحت بالآمال باسمة           لان الذي ثار وانقاد الذي جمحا

فالروض مهما زهت قفر              إذا حرمت من جانح رفّ أو من صادح صدحا (الأخطل الصغير)

 

قد يبدو ما أقوله خارج السياق التقليدي، ولن يعجب حتماً غلاة اليهود ولا غلاة العرب، وقد يبدو للمعتدلين ضرباً من خيال خصب لسياسيّ في سنّ اليأس، بعد تجارب سابقة فاشلة من أقصى اليسار الثوري إلى بعض اليمين المعتدل، ثمّ العودة إلى بعض اليسار الملطّف بالليبرالية الإنسانية. لكنّ كلّ التجارب التقليدية الفاشلة عليها أن تدعو ذوي الألباب إلى الخروج من دائرة المألوف السائد والبحث عن المخارج من خارج المألوف.

لكنّ مسألة فلسطين الموحّدة ليست من صنع خيالي أنا، بل كانت هي الفكرة التي تأسّست عليها الجبهة الشعبية الديمقراطية برئاسة نايف حواتمة، كما كتب عنها العديد من الباحثين الفلسطينيين واليهود كحلّ وحيد ممكن لواقع وجود 14 مليون بشري مناصفة بين يهود وغير يهود على أرض فلسطين. فكرة دولة لليهود كانت أساس الحركة الصهيونية، ولم تكن الفكرة في بداياتها تحمل الطابع العنصري الذي يسيطر على الصهيونية اليوم، بل كانت تشمل أيضاً بعضاً من الحالمين بمجتمع تعاونيّ يجمع العرب واليهود كما كان الوضع المتخيّل مثالياً في الأندلس التي أنتجت، إلى ابن رشد، موسى بن ميمونة الفيلسوف اليهودي الذي صار لقبه “موسى الثاني” نسبة للنبيّ موسى “الأوّل”. هذا الحلّ هو البديل عن دولة الفصل العنصري القائمة حالياً التي تسعى اليوم إلى التطهير العرقي لمداواة التصاعد المطّرد لعدد الفلسطينيين بالمقارنة مع اليهود. في إفريقيا الجنوبية حصل التحوّل بعد نضال مرير، وبعدما قاطع العالم بشبه إجماع دولة الفصل العنصري.

تدمير الدولة اليهودية يكون بضرب فكرتها بالاستناد إلى الواقع الديمغرافي والحقوقي، وبإعلان الصمود في الأرض تحت الاحتلال

أنشودة حلّ الدولتين

مسألة حلّ الدولتين، على الرغم من كونها الأنشودة البليدة التي تتكرّر على لسان كلّ العاجزين عن الحلّ، أو الجاهلين لطبيعة جغرافيا الأرض والديمغرافيا، أو العارفين باستحالة تطبيقها لكن ينتظرون الزمن ليأكل القضيّة أو يجد لها حلّاً عجائبياً، وهناك بالتأكيد من يستثمر باستمرار الصراع ولا يريد بالأصل أن يكون هناك حلّ… في الوقت الحالي، وعلى الرغم من أنّ ما قامت به حماس في السابع من أكتوبر منطقي ونتيجة طبيعية لكون غزّة والضفّة وفلسطين بالإجمال معسكر اعتقال يديره العقل العنصري الصهيوني ويعاني منه جميع الفلسطينيين بدرجات متفاوتة من عدم المساواة والإرهاب والإذلال المقصود والتيئيس إلى درجة الإنتحار.

فلسطين

لكنّ ما حصل وإن لم تكن نتائجه بالحسبان على الأرجح من ناحية غنائم حماس يوم الطوفان وحجم خسائر إسرائيل، أي أنّه ليس من المؤكّد أنّ حماس توقّعت هذا العدد من القتلى والمحتجزين الإسرائيليين، وإن كان حسن التخطيط جعل من العمل العسكري ضدّ الجنود الإسرائيليين عملاً عسكرياً نموذجياً، وبالمحصّلة وإن كان الأمر أحدث صدمة ربّما فاقت بتأثيرها النفسي ما حدث يوم عبور خطّ بارليف، فإنّ إسرائيل أدخلت حدث السابع من أكتوبر كوسيلة ابتزاز وضغط على المجتمع الإسرائيلي الجاهز عنصرياً للمبادرة إلى التصفية العنصرية، كما على جزء من العالم، ولو لفترة من الزمن، لتشبيه عمل حماس بالهولوكوست.

وضعت هذه الحرب المدمّرة إسرائيل العنصرية للمرّة الأولى تحت المجهر الإنساني، وأصبح جيشها من أمقت الجيوش على وجه الأرض

كان هذا بالطبع سائداً في معظم الأوساط الغربية، شعبياً ورسمياً، إلى أن تكشّف حجم المحرقة الفعلية التي تمارسها العقلية الصهيونية العنصرية ضدّ الفلسطينيين بشكل خاصّ، ليس بسبب عقليّة مريضة بالتفوّق العنصري فقط، بل لأنّ مجرّد وجود سبعة ملايين فلسطيني بين النهر والبحر، يحيون على الرغم من الفاقة ويتوالدون، يعني استحالة استدامة الدولة اليهودية إلى أمد طويل، إلا تحت ظلّ دولة فصل عنصري تكون عرضة للمقاطعة والاضطراب وعدم الاستقرار بمجرّد أن يقرّر كلّ الفلسطينيين الاتّحاد والتوقّف عن مزايدة بعضهم على بعض في التضحية ورفع شارات النصر، ثمّ على العرب واليهود والغرب، والتوقّف أيضاً عن وصف الصراع بالمقدّس الديني أو القومي أو الأسطوري، ومن جهة أخرى التوقّف عن الانبطاح الفاسد أمام السطوة الغربية والمنافع الشخصية التافهة في سلطة وهمية.

دولة واحدة ديمقراطية

تدمير الدولة اليهودية يكون بضرب فكرتها بالاستناد إلى الواقع الديمغرافي والحقوقي، وبإعلان الصمود في الأرض تحت الاحتلال من دون صيحات نصر ومن دون شعارات الموت والدمار، بل بإعلان أنّ كلّ فلسطيني هو إنسان مثله مثل أيّ إنسان آخر على سطح الأرض، وله الحقّ بالمساواة والسعي إلى الرزق والسعادة في الأرض التي يعيش على ترابها.

مسألة فلسطين الموحّدة ليست من صنع خيالي أنا، بل كانت هي الفكرة التي تأسّست عليها الجبهة الشعبية الديمقراطية برئاسة نايف حواتمة

من هنا، فإنّ فكرة دولة واحدة ديمقراطية وغير دينية هو الحلّ القاتل للدولة اليهودية. وهذه الفكرة، وإن كانت تلهم قلّة من اليهود والفلسطينيين، في ظلّ الشعارات العدائية والمقولات الأسطورية، لكنّها ستصبح مطلباً عامّاً، يهودياً وفلسطينياً، في حال إفساح المجال له بتحويل الصمود والثورة الفلسطينيَّين من وهم السلطة المرتهنة والفاسدة والشعارات البرّاقة التي تعد بالنصر، وإن بعد حين، إلى عصيان يشبه ما حصل في ثورة الحجارة.

إقرأ أيضاً: مقاطعة البضائع الصهيونيّة… وخبث الرأسماليّة

لقد وضعت هذه الحرب المدمّرة إسرائيل العنصرية للمرّة الأولى تحت المجهر الإنساني، وأصبح جيشها من أمقت الجيوش على وجه الأرض بعدما وُصم بقاتل الأطفال. لكنّ الأهمّ هو عودة نخب اليهود في الجامعات في العالم إلى إنسانيّتهم ووعيهم، بمعنى الاستهداف العنصري الذي عانى منه آباؤهم وجدودهم، ليعلنوا البراءة من الصهيونية التي تشبه النازية في أفعالها وشرورها. كما أنّ أقليّة من يهود إسرائيل تحمّلوا إرهاب الجموع المهتاجة بالعنصرية الصهيونية وأعلنوا انتصارهم ودعمهم للفلسطيني المظلوم والمعتدى عليه. لا شكّ أن لا شيء سيعوّض خسارة الأرواح البريئة التي أُزهقت، لكنّ المهمّ هو عدم التفريط بتضحيات أصحابها والاستفادة من اللحظة المتاحة.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@allouchmustafa1

مواضيع ذات صلة

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…