مقاطعة البضائع الصهيونيّة… وخبث الرأسماليّة

مدة القراءة 8 د

ويلٌ لأمّة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين.

ويلٌ لأمّة تلبس ممّا لا تنسج، وتأكل ممّا لا تزرع، وتشرب ممّا لا تعصر.

ويلّ لأمّة تحسب المستبدّ بطلاً، وترى الفاتح المذلّ رحيماً.

ويلٌ لأمّة لا ترفع صوتها إلا إذا مشت بجنازة، ولا تفخر إلّا بالخراب ولا تثور إلا وعنقها بين السيف والنطع.

ويلٌ لأمّة سائسها ثعلب، وفيلسوفها مشعوذ، وفنّها فنّ الترقيع والتقليد.

ويلٌ لأمّة تستقبل حاكمها بالتطبيل وتودعه بالصَّفير، لتستقبل آخر بالتطبيل والتزمير.

ويلٌ لأمّة حكماؤها خرس من وقر السنين، ورجالها الأشدّاء لا يزالون في أقمطة السرير.

ويلٌ لأمّة مقسّمة إلى أجزاء، وكلّ جزءٍ يحسب نفسه فيها أمّة.

جبران خليل جبران

سقى الله أيام زمان، أيام التظاهرات الصاخبة التي تبحّ فيها أصوات المناضلين وهم ينادون بسقوط الاستعمار وأعوانه ممّن يدعمون العصابات الصهيونية. كنّا ننطلق من باب التبّانة، وكان متجر والدي أحد أهمّ مراكز تجمّع الشباب، كما كان مكان اجتماعات اللجان الشعبية وهم يتحدّثون عن الثورة العالمية التي ستنطلق من شوارع باب التبّانة لتتضامن مع المحرومين والمستضعفين في الأرض. هنا كانت تختلط الشعارات الشيوعية مع القومية والإسلاموية، والحبل على الجرّار من التصاريح المتناقضة والمضحكة. منها مثلاً ما قاله أحد الشبّان الثوريين، ودخّان سجائر الغولواز الفرنسية، وكانت موضة ثورية، يتصاعد من أنفه ليملأ المكان بسحابة سوداء، من أنّ الرفيق ماو تسي تونغ جمع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني “نهار أمس”، لدراسة ظاهرة اللجان الشعبية وكيفية تعميمها.

انتشرت فجأة صور غيفارا في غرف منامة مئات الملايين من الشباب حول العالم، وأصبحت قبّعته موضة الموسم

كنّا نصفّر بتعجّب وإعجاب وفرح لهذا الخبر العظيم. المهمّ هو أنّ التظاهرات كانت تنطلق، وأهمّ شعاراتها كان مقاطعة البضائع الغربية، لمعاقبة الشركات على دعم العصابات الصهيونية. المفارقة هي أنّ الكثيرين من المنادين بالمقاطعة الصارمة، كانوا مفطومين على دخان المارلبورو الأميركية بدل دخان “بافرا” أو “ططلي سرت” الوطنيَّين، لأنّ طعمهما غير مستساغ. المفارقة الثانية هي أنّ بعض المتظاهرين كانوا، بعدما نشف حلقهم من الهتاف، يلجأون إلى دكّان على الطريق ليشربوا “بيبسي كولا”، مع أنّ “كازوزة” نجمة الوطنية كانت أرخص بفرنكين. وكانت تتفرّق التظاهرات على ساحة التلّ، حيث كانت ترابط قوات السلطة “الغاشمة والمتعاملة مع الإمبريالية”، وتصوّب علينا خراطيم المياه، في لعبة ممتعة خاصة في أيام الصيف الحارقة، فتكون المياه برداً وسلاماً علينا. كما كنّا مطمئنّين لعلمنا أنّ خراطيم المياه هذه لن تتحوّل إلى مدافع رشّاشة تقتل المتظاهرين كما في البلدان المجاورة الثورية حيث مخابراتها تجرجرهم إلى أقبيتها.

من لا يُنتج.. كيف يقاطع؟

لم نتعلّم أبداً أنّ من لا ينتج لا يمكنه أن يقاطع. فحتى طحيننا لم يعدّ من قمحنا. كان ذلك إلى أن أتت حرب 1973، فقرّرت الدول المنتجة للنفط حظر نفطها عن دول ممعنة في دعمها للدولة الغاشمة، التي لم تعد عصابة، ولكن بقيت صهيونية. أخرج هذا الأمر مجموعة “الأخوات السبع” من السيطرة التامّة على سوق النفط، وهي الشركات النفطية الكبرى المتسلّطة بدعم دولها على التنقيب والإنتاج والتكرير والبيع. صارت حصّة الدول المنتجة مضاعفة من الإنتاج، ودخلت هذه الدول كقوّة مالية مهمّة في الاقتصاد العالمي المبنيّ على الأخذ والردّ، أي على عكس المقاطعة. وتمكّنت الأخوات السبع، ومعها أخوات مضافة، من تغيير تموضعها وتحويله لاستمرار الكسب والسيطرة. لكنّ تشعّب اهتمامات واستثمارات الدول المنتجة للنفط وضعها خارج إمكانية الحظر إن أرادت، ولا حتى التحكّم بشكل كبير في إنتاجها لأنّ الاقتصاد المعولم لا يسمح إلا بهوامش صغيرة من السيطرة المحلّية.

اليوم فرحت لأنّ أولادي، منذ يوم طوفان الأقصى، وبعد مشاهدة فظاعة الغرب الصهيوني المتمثّل بوحوش إسرائيل، قرّروا مقاطعة شركة بيبسي

لكنّنا، على الرغم من ذلك، هلّلنا للفرحة، وظننّا أنّ مقولة “بترول العرب للعرب” تحقّقت، وظننّا أنّ البترول يمكن أكله أو تحويله بأعجوبة إلى برّاد أو درّاجة أو إبرة نخيط بها الثياب… إلى أن اكتشفنا تهافت المقاطعة لأنّنا بلدان استهلاك ليس إلّا.

أولادي يقاطعون

لكنّني اليوم فرحت لأنّ أولادي، منذ يوم طوفان الأقصى، وبعد مشاهدة فظاعة الغرب الصهيوني المتمثّل بوحوش إسرائيل، قرّروا مقاطعة شركة بيبسي كولا وستارباكس وأخواتها، واستبدلوها بأخرى ظهرت فجأة على الساحة بعد الطوفان، أو ربّما كانت موجودة قبله، لكن تمّ اكتشافها، أو الترويج لها كبديل وطني. كلّ من تذوّقها تقريباً أشاد بها، ولست أدري أكان ذلك بدافع موضوعي في المذاق، أم لأسباب نفسية أو وطنية؟ ولكن لا بأس، فهذا يعبّر على الأقلّ عن تعاطف أولادي مع قضيّة ظننت أنّها اختفت من وجدان الأجيال الشابّة. لكنّني سألت، بسذاجة، عن الشركة المصنّعة، ومعايير الجودة، ومصدر تمويلها، وأصحاب امتيازها. ثمّ سألت من أين تأتي الصبغة التي تستعملها والنكهات والمحلِّيات والزجاجات… فتأفّف منّي الأولاد، مع أنّهم لم يتساءلوا يوماً عن مصدر الألبسة والعطور وموادّ التجميل والسيّارة، ولا الكمبيوتر ولا الهاتف الذكيّ، ولا حتى المحرّكات التي تفعّل وسائل التواصل الاجتماعي، ولا عن القمر الاصطناعي الذي ينقل لهم مباريات كأس أوروبا لكرة القدم، أو نهائي رولان غاروس لكرة المضرب أو أخبار نهائيات الرابطة الأميركية لكرة السلّة… يعني أنّنا حتى عندما ندعو عبر أيّ وسيلة تواصل إلى المقاطعة، نساهم مباشرة في دعم ما ندعو إلى مقاطعته…

خوفي أن يكتشف الشباب المتحمّس للمقاطعة اليوم أنّه في الواقع يروّج للبضاعة ذاتها، بأسماء جديدة، فلا شيء يشبه خبث الرأسمالية

نهاية غيفارا… كماركة مسجّلة

تذكّرت عندها مسألة ماركة تجارية، ما زالت متداولة حتى يومنا هذا، وإن كانت بوتيرة قليلة. هي ماركة صورة وجه القائد اليساري أرنستو تشي غيفارا. ذاك الثوري الأسطوري الذي أصبح أيقونة النضال من أجل الكادحين والمستضعفين في الأرض. وكنت أنا شخصيّاً أعتبره قدوتي، وتمنّيت لو كنت مكانه في محطّات حياته، حتى وإن كان الثمن نهاية كنهايته!

المهمّ هو أنّ المخابرات الأميركية اغتالته سنة 1967 في كمين تسبّب به أحد المستضعفين الذي وشى به لأنّ الاشتباكات في الغابات كانت تتسبّب بهروب قطيع الماعز الذي كان يرتزق منه. مرّت قصّة قتله الدنيئة على يد عملاء المخابرات الأميركية مرور الكرام في ذاك الوقت. لكنّ تحقيقاً صحافياً ظهر بعد سنوات أدّى إلى إنتاج أيقونة شبابية ويسارية ثورية، تفاعلت مع روح التحرّر والانعتاق من التقليد، ومع بعض ما بقي من الحركات الهيبّية والفوضوية. أصبح غيفارا أسطورة حقيقية. غيفارا كان قد تخرّج طبيباً سنة 1953. وهو أرجنتينيّ المولد. حفلت سنوات شبابه بالتجارب الثورية. كان تعاطفه مع الفقراء هو ما دفعه ليصبح ثائراً أمميّاً يبحث عن المشاركة في أيّ موقع قد يمارس فيه العنف الثوري دفاعاً وانتصاراً للضعفاء. ذهب غيفارا حتى إلى “الكونغو”، وشارك في ثورة هناك، قبل عودته لمغامرته القاتلة في بوليفيا. تمّت تصفيته هناك في التاسع من شهر تشرين الثاني سنة 1967.

انتشرت فجأة صور غيفارا في غرف منامة مئات الملايين من الشباب حول العالم، وأصبحت قبّعته المشابهة للقبّعة الكشفية، والتي تزيّنها النجمة الحمراء، والقميص العسكري الزيتي اللون ذو الأزرار المفكوكة على الصدر، موضة الموسم.

منذ بضعة أسابيع، اكتشف نصر الله أنّ الهاتف الجوّال هو جاسوس صهيوني، وهو أمر مفروغ منه

أظنّ أنّ الرأسمالية جنت من تلك الموضة، ولا تزال، مليارات لا تحصى من الدولارات، بعدما بيعت ملايين النسخ من صوره ومن القمصان التي تحمل رسمه. بعض الخبثاء من المعادين لليسار، كانوا يتندّرون بأنّ غيفارا، الذي كنّا نقدّسه، لم يكن إلا ماركة تجارية روَّجت لها شركات رأسمالية لتستفيد من “هبل” اليساريين.

حتى الأحزاب الشيوعية التي نعتت غيفارا في السابق بالمراهق الثوري، وبأنّه مجرّد مزايد ومغامر فوضوي، اضطرّت إلى استعمال أسطورته للترويج لنفسها بين الشباب المتحمّس والمتعطّش لنبيّ يساري جديد. بدأت هذه الأحزاب تحيي الندوات وترعى السهرات الفنّية لتخليد ذكرى “الثوري الأممي الكبير وفيلسوف حرب العصابات الثورية”.

خوفي أن يكتشف الشباب المتحمّس للمقاطعة اليوم أنّه في الواقع يروّج للبضاعة ذاتها، بأسماء جديدة، فلا شيء يشبه خبث الرأسمالية.

إقرأ أيضاً: سُنّة لبنان “تغويهم” الحرب… على المفتي أن يتدخّل

ملحوظة أخيرة:

منذ بضعة أسابيع، اكتشف نصر الله أنّ الهاتف الجوّال هو جاسوس صهيوني، وهو أمر مفروغ منه، فالقاصي والداني يعرف أنّ الهواتف اليوم هي وسيلة مراقبة متقدّمة في يد من يملك ناصية التكنولوجيا ويتحكّم بها. لكنّ المفارقة المؤلمة هي أنّ من يريد أن يواجه عدوّاً من هذا النوع كان عليه أن يعدّ بدائل من إنتاج محلّي خارج إطار السيطرة التكنولوجية.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@allouchmustafa1

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…