“هل تطلبون نبذة صغيرة عن أرض قمعستان، تلك التي تمتدّ من شمال إفريقيا إلى بلاد نفطستان.
تلك التي تمتدّ من شواطئ القهر إلى شواطئ القتل إلى شواطئ السحل، إلى شواطئ الأحزان.. (نزار قباني)
لا جدال في كون حزب ولاية الفقيه، كأكثرية المنظومات الشمولية التي تدّعي العلم بالحاضر والغيب، منظّماً بشكل دقيق وفعّال ليصل إلى الهدف الذي يصبو إليه ويعتبره واجباً ماورائياً، إلى كونه قناعة سياسية، وذلك بغضّ النظر عن المعوّقات المنطقية التي تعترض الهدف السياسي. هنا تأتي الأسطورة لملء الفراغات المنطقية في السياسة الواقعية، فتصبح معجزة التدخّل الآتي من عالم الغيب جزءاً من البرنامج السياسي، وبالتأكيد داخلة في الخطط العسكرية.
قوّة هذه الفكرة تنبع من أنّ خسارة الأرواح على الأرض توازيها، لا بل تتفوّق عليها فكرة الآخرة والكسب المضاف بالاستشهاد. بالطبع ساعدت هذه الفكرة وتساعد معتنقي هذه القناعات من مختلف الاتّجاهات، فداعش والنصرة أقنعتا أتباعهما بهذه الفكرة، كما كانت الفكرة ذاتها تقريباً وراء تضحيات مشهورة في التاريخ القريب والبعيد، وليس بالضرورة أن تكون ذات خلفيّات إسلامية. فحتى الإنجيلية الصهيونية مؤمنة بأنّ جنّة الخلد ونهاية الأزمنة والتدخّل الإعجازي ستكون كلّها حاضرة لتحقيق الانتصار على الآخرين، بمختلف أشكالهم. كما أنّ الشيوعية والنازيّة والفاشيّة والنيبونية (اليابانية) كانت أيضاً تستند إلى تنظيم دقيق، وقناعات ماورائية خاصة بها.
ما يجمع تلك المنظومات عادة هو كونها عسكرية، أي تستند في أساس عملها السياسي إلى الأعمال العسكرية والعنف في سبيل “إقناع” الناس بتوجّهاتها وسيطرتها، ومن لم يقتنع يقع تحت رهاب أن ينكَّل به، في أقلّ تقدير، أو يفقد حياته كما تكون العادة. ويكون الموت قتلاً أو تفجيراً أو إعداماً في معظم الأحيان عقوبة لجريمة الفكر الخطيرة، حتى وإن لم تشرع الضحيّة في المبادرة بأيّ عمل عدائي.
حزب ولاية الفقيه، يستند في عمله العسكري، وهو الأساس، إلى تسع مؤسّسات ظاهرة
العداء للكتب والثقافة
من هنا عداء تلك المنظومات للكتب والثقافة، إلا ما هو محصور بالدعاية لها وتمجيدها، فتحرق الكتب المنحرفة عن هذا الطريق، ويُقتل أو يُسجن كاتبها، وتحاكمه وتحكم عليه مجموعة من المساطيل الذين لا يفقهون شيئاً عن العدل. وحتى لو شكّ أحدهم ببراءة محكوم، فإنّه يجنح عادة إلى السير بالسائد في ثقافة الحشود، ويلجأ إلى التراتبية والمصلحة العامّة والتكليف الشرعي ليسوّغ ما لا يستسيغ تسويغه لوحده، إن عاد لضميره. البدعة المكرّرة هي أنّه يجتهد، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر لحسن مقاصده. أمّا الضحيّة، فإن كان مذنباً، فقد نال جزاءه في الدنيا، وسيلقى ما هو أعظم في الآخرة. وإن كان بريئاً، فسيعوّض له في جنّات النعيم كشهيد مظلوم!
بالعودة إلى حزب ولاية الفقيه، فإنّه يستند في عمله العسكري، وهو الأساس، إلى تسع مؤسّسات ظاهرة، منها ما أنشأها محازبوه محلياً، ومنها ما استنسخها له الإيرانيون من مؤسّسات مماثلة عندهم.
هذه المؤسّسات المعروفة، ولا نكشف بها سرّاً، هي:
1- القرض الحسن الذي أُسّس عام 1983 بغرفة واحدة وأصبح لديه اليوم 500 موظّف يعملون في 31 فرعاً تغطّي الجنوب والبقاع والضاحية.
2- الهيئات النسائية التي أُنشئت عام 2003 وتضمّ في كلّ منطقة 1,000 امرأة ما بين متطوّعة ومتعاقدة.
3- الدفاع المدني الذي أُنشئ عام 1982 ويضمّ الآلاف ما بين متطوّع ومتفرّغ .
4- الهيئة الصحّية التي أُنشئت عام 1984 ويعمل فيها عشرات الكوادر الطبّية والتمريضية والمسعفين والسائقين ما بين متعاقد ومتفرّغ.
5- جهاد البناء التي أُسّست عام 1988 وتعنى أساساً بإعادة الإعمار والتنمية.
6- 1988 جمعية الامداد التي أُسّست عام.
7- 1992 مؤسّسة الجرحى وأُسّست عام.
8- مؤسّسة الشهيد وأُسّست عام 1989 وتسعى إلى دعم عوائل الشهداء، لكنّها في الوقت ذاته تروّج للاستشهاد في صفوف الحزب. والمؤسّسات الثلاث الأخيرة أنشأها عيسى طبطبائي في لبنان، ناقلاً التجربة الإيرانية في هذا المجال إلى الحزب.
لا جدال في كون حزب ولاية الفقيه، كأكثرية المنظومات الشمولية التي تدّعي العلم بالحاضر والغيب
9- المؤسّسة الإسلامية للتربية والتعليم التي أُنشئت عام 1993 ولها 20 فرعاً في مختلف مناطق الحزب ويطلق عليها اسم مدارس المهدي، ومن مهامّها الأساسية غسل أدمغة الأطفال وتحضيرهم لخدمة الأهداف العسكرية.
هذا بالإضافة إلى مؤسّسات الدراسات والإعلام والحوزات الفقهية التي أسّست لثقافات بديلة ترتكز على تغيير كلّ المعارف والفلسفات والآداب لخدمة قضية ولاية الفقيه. فهناك مثلاً بعض الباحثين في الفلسفة في إيران الذين أخذوا فلسفة مارتن هايدغر الملحدة التي تشير إلى حاجة إلى نبوءة حديثة لإنقاذ البشرية من الحداثة المتسارعة. فاعتبر هؤلاء الباحثون أنّ الوليّ الفقيه هو المعنيّ بكلام هايدغر.
المعادون للحزب ونقصان الثقافة
ما لي ولكلّ تلك الأمور، فقولي لن يؤخذ بمعانيه ولا بتداعياته، فالملتزم بولاية الفقيه سيعتبره دسّاً مغرضاً، ومن هو غير ملتزم ستمرّ عليه المعلومة مرور الكرام. كما أنّ خبرتي أكّدت أنّ المعادين للحزب تنقص الكثيرين منهم ثقافة الدرس والقراءة. لكنّني، في مراقبتي لفحوى الحملات الشعواء التي طالتني وطالت زملاء آخرين من أعداء ولاية الفقيه، فإنّ من الواضح وجود مؤسّسة إضافية سرّية تابعة للدعاية لدى الحزب سمّيتها “جهاد الشتائم”، أي أنّها كتيبة من الحزب مسؤولة عن توجيه أقذع الألفاظ وأسوأ الاتّهامات بحقّ معارضي الحزب، ومنهم من هو متخصّص بالتهديدات، وأحياناً بافتعال إشكال ينتهي بالبهدلة والأذيّة في مطعم أو مقهى، كما حدث قبل أيام.
مؤسّسة الشهيد وأُسّست عام 1989 وتسعى إلى دعم عوائل الشهداء، لكنّها في الوقت ذاته تروّج للاستشهاد في صفوف الحزب
هذه المجموعة الموجّهة قد لا تحتاج إلى كثير من التفاصيل للقيام بدورها، وبعض أعضائها يحقّ لهم المبادرة والاجتهاد في اختيار ضحاياهم، كما نوع الشتائم وطبيعة الاتّهامات، وبعضهم من المتخصّصين يعودون إلى لقطات ومشاهد ومقابلات، أتت في سياق وقتها، لكنّهم ينبشونها للاستعمال عند الحاجة.
إقرأ أيضاً: بروتوكول غولدامائير: الهدف قتل الفلسطيني وليس إنقاذ اليهودي
هذه الأساليب، مضافاً إليها الاغتيالات المتعدّدة وجحافل البلطجيّة والمخرّبين، كما تهديد القضاة والعسكريين، كلّها جزء لا يتجزّأ من سياسة مدروسة وتجربة متراكمة لمدرسة واحدة هي الطغيان، ولا يهمّ ما هو دينها، فالصهيونية تستعمل اللاساميّة، والقومية تستعمل الخيانة، والقوى التي تتظلّل بالدين تكفّر من يخالفها. الطغاة كلّهم من عشيرة واحدة، حتى وإن تقاتلوا، والضحايا هم أيضاً من العشيرة ذاتها، أكانوا في غزة أو في الغوطة.
لمتابعة الكاتب على X:
