“تأَمَّلْ هنالِكَ أَنَّى حَصَدْتَ رؤوسَ الوَرَى وزهورَ الأَملْ
وَرَوَّيْتَ بالدَّمِ قَلْبَ التُّرابِ وأَشْربتَهُ الدَّمعَ حتَّى ثَمِلْ
سيجرُفُكَ السَّيْلُ سَيْلُ الدِّماءِ ويأْكُلُكَ العَاصِفُ المشتَعِلْ”
أبو القاسم الشابيّ
ظهر مصطلح “بروتوكول هنيبعل” في بدايات حرب غزة الأخيرة والمستمرّة. وبقي التعبير قائماً ليعود ويظهر من جديد بعد استعادة إسرائيل أربعة من أسراها لدى حركة “حماس” بقتل مئات الفلسطينيين في عملية دمويّة.
تختلف الآراء بشأن تسمية هذا البروتوكول العسكري باسم من يعتبره اللبنانيون من أحفاد إليسار الفينيقية التي حطّت رحالها على ساحل تونس في غابر الزمان. وتقول الأسطورة إنّها بنت مدينة قرطاجة بتدبير فطن مع القوى المحلّية، لتتحوّل قرطاجة إلى إمبراطورية عظمى على مدى حوالي أربعة قرون. قبل أن تثبّت الإمبراطورية الرومانية سيطرتها الكاملة على حوض المتوسط بعدما هزمت هنيبعل نفسه بطموحه ومغامراته لاحتلال روما، عندما قرّر قائد روماني شابّ اسمه “سكيبيو” ويُلقّب بـ”الإفريقي” هزيمة هنيبعل في عقر داره على سواحل إفريقيا في آخر الألفية الثانية ق.م. هناك من يرى أنّ المصطلح يطلق على الطريقة التي أنهى بها قائد قرطاجة هنيبعل حياته، حين اختار تسميم نفسه بدلاً من الوقوع أسيراً.
فكرة التضحية بيهود ليست بعيدة عن الفكر الاستراتيجي الصهيوني. لكنّ “بروتوكول هنيبعل” تمّ تطبيقه قبل سنوات من إقراره كسياسة عسكرية
في حين يرى آخرون أنّ اسم هذا النظام، الذي ظلّ سرّاً عسكريّاً حتى عام 2006، تمّ اختياره عشوائيّاً من قبل جهاز حاسوب تابع لجيش إسرائيل قبل نحو 3 عقود، وتمّ تطويره بواسطة 3 من كبار ضبّاط الجيش. يعتبر الجيش الإسرائيلي الوحيد الذي يستخدم هذا الإجراء في العالم، على الرغم من الانتقادات الداخلية المتكرّرة التي تطاله، وترى أنّه لا يوفّر الحماية لقوّاته في الميدان.
قتل الزملاء… ولا الأسر
يعود تاريخ وضعه وصياغته إلى زمن إبرام صفقة الأسرى المسمّاة “الجليل” بين إسرائيل وأحمد جبريل عام 1985، التي بادل خلالها 3 جنود إسرائيليين بـ1,150 أسيراً فلسطينياً. بعد ذلك، تمّ تقديم نظام “توجيه هانيبال” رسمياً عام 1986، بعد 5 أشهر من أسر الحزب جنديَّين إسرائيليَّين، وما تلا ذلك من عمليات تبادل للأسرى لم تعجب قادة إسرائيل. تمّ توجيه الجنود الإسرائيليين إلى عرقلة اختطاف زملائهم بأيّ ثمن حتى وإن أدّى ذلك إلى مقتلهم. تمّت صياغة البروتوكول من قبل يوسي بيليد، رئيس القيادة الشمالية للجيش الإسرائيلي، بالتعاون مع لجنة من الجنرالات المشهورين.
لكنّ المؤكّد هو أنّ هذه السياسة كانت ممارسة بشكل منهجي من قبل قادة الحركة الصهيونية اقتداءً برواية حصار مصعدة من قبل جيش روما بقيادة “طيطس” سنة 73 واختيار المحاصرين اليهود فيها الموت على التسليم. فبقيت القضية إحدى الأساطير العالقة في أذهان الصهاينة كعلم من أعلام النضال.
ظهر مصطلح “بروتوكول هنيبعل” في بدايات حرب غزة الأخيرة والمستمرّة. وبقي التعبير قائماً ليعود ويظهر من جديد بعد استعادة إسرائيل أربعة من أسراها لدى حركة “حماس”
تختصر الفكرة بالتضحية بالقلّة من أجل مصلحة الكثرة، أو التضحية بخسارة صغيرة حاضرة في سبيل مكاسب كبرى في المستقبل.
شامير تعاون مع النّازيّين…
تؤكّد الوثائق أنّ أدولف إيخمن، مهندس الهولوكوست، التقى بأحد قادة الهاغاناه سنة 1938، بُعيد ليلة الكريستال الشهيرة في ألمانيا حيث تمّ تخريب المصالح والممتلكات اليهودية، وقتل العديد من اليهود في مقدّمة للتطهير العرقي النازي. ما قاله القائد اليهودي هو أنّ التنكيل باليهود في ألمانيا سيدفعهم للهجرة إلى فلسطين، فقال إيخمن: “وهكذا تتكامل فوائدنا”.
كما أنّ صحيفة جيروزاليم بوست فضحت تعاون إسحق شامير، رئيس وزراء إسرائيل، مع النازيين، لتهريب يهود وترك آخرين في ألمانيا سنة 1942. كما اعترفت المخابرات الإسرائيلية بأنّها أحرقت كنيساً في بغداد مات فيه يهود لدفع يهود العراق للهجرة إلى إسرائيل.
هذا يعني أنّ فكرة التضحية بيهود ليست بعيدة عن الفكر الاستراتيجي الصهيوني. لكنّ “بروتوكول هنيبعل” تمّ تطبيقه قبل سنوات من إقراره كسياسة عسكرية. ففي سنة 1972، يوم خطفت منظمة أيلول الأسود رياضيين إسرائيليين من ميونيخ خلال الألعاب الأولمبية، أمرت غولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل وقتها، بقتل الخاطفين مهما كان الثمن بغضّ النظر عن عدد الرهائن. فقُتل جميع الرهائن الإسرائيليين بالهجوم الذي نفّذته قوّة كوماندس ألمانية.
لا نعلم بالفعل ماذا حدث لهنيبعل، لكن، إن صحّت الرواية، فقد آثر الانتحار على ذلّ الأسر، ولا يبدو أنّه قتل جنوده عن عمد حتى لا يقعوا في الأسر
هذا ما باشرت به القوات الإسرائيلية صباح يوم عملية طوفان الأقصى حيث بات من المسلّم به عند الجميع أنّ الطائرات الإسرائيلية استهدفت الفلسطينيين المنسحبين إلى داخل قطاع غزة مع من اعتقلوهم. ويقدّر عدد الإسرائيليين الذين قتلوا بنيران مواطنيهم بالمئات. وحتى عندما تبيّن أنّ عدد المعتقلين لدى حماس قد فاق مئتين، فإنّ العديد من المسعورين في إسرائيل طالب بضرب غزة بقنبلة نووية.
الواضح هو أنّ نتنياهو ورفاقه، كما معظم جمهور إسرائيل، ما عدا أقلّية نادرة ما زال فيهم بعض الروح الإنسانية، اعتبروا أنّ العقبة الوحيدة أمام تدمير كلّ غزة كان وجود المعتقلين الأحياء، وعلى الرغم من ذلك، لم تتوقّف آلة الحرب الإسرائيلية عن الضرب العشوائي، مع علم قادتها بأنّ العديد منهم سيسقط ضحيّة ذاك القصف.
قتل مئات الفلسطينيّين
لكن ما الذي حدث في عملية تحرير الرهائن الأربعة الأخيرة؟
نفّذت القوات الخاصة الإسرائيلية عملية أرض محروقة، وقادتها يعلمون أنّ احتمال نجاح العملية مشكوك فيه من ناحية إمكانية إعادة الرهائن أحياء. كما كان هناك استعداد لاستعمال أقصى القدرات الناريّة لحماية العملية، بغضّ النظر عن الدمار والموت، أكان من الناحية الفلسطينية، أو من ناحية الأسرى الإسرائيليين المحتمل وجودهم في الحزام الناريّ الذي فرضته العملية.
حسب ما تبيّن قتل الحزام الناريّ وجرح عدّة مئات من الفلسطينيين، وهم على الأرجح من العزّل. كما دمّر مساحات واسعة ممّا بقي من سقوف تؤوي النازحين فراراً من ملاجئ ظنّوها آمنة إلى أخرى لم يجدوا فيها إلا الموت.
نتنياهو ورفاقه، كما معظم جمهور إسرائيل، ما عدا أقلّية نادرة ما زال فيهم بعض الروح الإنسانية
نتنياهو كان يتمنّى لو قتل جميع الأسرى والرهائن الإسرائيليين منذ اليوم الأوّل للعمليات العسكرية حتى يتملّص من الضغط الإسرائيلي الشعبي عليه لوقف النار، ولو لفترة من الزمن، وتحرير من بقي من أحياء وقتلى من الإسرائيليين. فلو لم يكن الوضع كذلك، لكان نتنياهو المستميت للبقاء في السلطة وليترقّى إلى رتبة بطل عسكري ويصبح نبيّاً جديداً من أنبياء إسرائيل. استغلّ جنون الأكثرية العظمى من الإسرائيليين المتعطّشين لسفك الدماء، بطوفان أقصى أو دونه، ونفّذ ما يعتبره إنجازاً وجودياً استراتيجياً بمحو غزّة عن الخارطة. وفرض ترانسفير بقوّة النيران باتّجاه سيناء، كانت واضحةً معالمه منذ اليوم الأوّل.
ما منع ذلك هو ممانعة مصر وتباطؤ العملية العسكرية بحكم وجود الأسرى والرهائن.
بروتوكول غولدا مائير
صحيح أنّ مجلس الحرب تمكّن من التغطية على انسحاب بعض أعضائه بعملية تحرير الأسرى. لكنّ احتمال تكرار إنجاز كهذا قد يكون مستحيلاً في ظلّ التيقّظ الذي أحدثته تلك العملية. وبالتالي ما سيعتمد عليه نتنياهو هو رفض حماس لمقترح بايدن لوقف إطلاق النار، لعلم قادتها بأنّ إسرائيل سوف تستأنف عمليّاتها العسكرية بشكل من الأشكال بمجرّد خروج الأسرى والرهائن. فالضمانات الأميركية هنا لا يعتدّ بها، إمّا لكونها زائفة، أو لأنّ لدى إسرائيل القدرة على التملّص من أيّ ضمانات. من هنا، سيستمرّ نهج الأرض المحروقة، والهدف دائماً ليس إنقاذ الرهائن والأسرى، بل قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وتدمير ما بقي من غزّة.
إقرأ أيضاً: الشراكات والميلشيات ومتغيراتها بين الغرب والعرب
لا نعلم بالفعل ماذا حدث لهنيبعل، لكن، إن صحّت الرواية، فقد آثر الانتحار على ذلّ الأسر، ولا يبدو أنّه قتل جنوده عن عمد حتى لا يقعوا في الأسر. على هذا الأساس يمكن تسمية هذا البروتوكول باسم غولدا مائير أو البروتوكول الصهيوني بدل اتّهام هنيبعل.
لمتابعة الكاتب على X: