عن إيران المتّكلة على الشيطان الأكبر

2024-06-13

عن إيران المتّكلة على الشيطان الأكبر

“اقطع رأس الأفعى بيد عدوّك، فإن لم ينقطع يضعفان وتنتصر أنت” (سعدي الشيرازي)

“من كان يحيا بمحاربة عدوّ ما، له مصلحة بإبقائه حيّاً” (فريدريك نيتشه)

إن كانت دول الغرب، وأميركا تحديداً، تعتبر منذ 1967 إسرائيل قاعدة عسكرية متقدّمة غربية في قلب المنطقة، فإنّ إيران، أكانت في أيام الشاهنشاهيّة، أم في عهد ولاية الفقيه، تبقى عنصراً ضروريّاً لإدارة الأمور في المنطقة. فهي، مع كونها عنصر عدم استقرار، جزء من سياسة “الفوضى الخلّاقة” التي تعطي الفرص لأميركا للتدخّل في إدارة تلك الفوضى والاستفادة من احتمالاتها.

 

في أيام الاحتلال البريطاني لمصر، كان بعض العمّال المصريين يعملون في تفريغ وتحميل بعض المؤن من وإلى الشاحنات العسكرية. وكالعادة، كانت روح النكتة المصرية دائماً حاضرة، وفي معظم الأحيان كانت تشمل شتائم للإنكليز. أحد الوشاة، وكانوا كثراً، ذهب إلى الضابط البريطاني ليخبره بفظاعة الشتائم التي تطاله وتطال دولته، مؤكّداً له وجوب معاقبة هؤلاء حتى يكونوا عبرة لمن يعتبر. أجاب الضابط العتيق: “دعهم يشتموا، فالمهمّ أن يستمرّوا بنقل الحمولة. إن عاقبت بعضهم فقد نخسر يداً عاملة، وقد يتذمّر البعض ويحتجّ وتخفّ إنتاجيّته، فلا بأس إذاً إن فرّغوا كرههم لنا بالشتائم، وقاموا بالمطلوب منهم على الرغم من ذلك”.

لا يختلف اثنان على أنّ إتقان فنون الاستعمار واستغلال الشعوب كان من تجلّيات الإمبراطورية البريطانية، ومن المعروف اليوم أنّه حتى بعد ضمور دور بريطانيا العسكري والاقتصادي والسياسي في النصف الثاني من القرن العشرين، بقيت مراكز التفكير فاعلة فيها، ويعتقد الكثيرون من المفكّرين السياسيين أنّ سياسات الولايات المتحدة الأميركية العالمية تنضج بالتعاون مع الإنتليجنسيا البريطانية.

من ضمن هذه السياسات أن تسهّل لخصمك فرصة شتمك، لكن في الوقت نفسه تتركه لينفّذ ما تريده، من موقع العداوة معك، وهو يظنّ أنّه ينفّذ ما يريده هو لينتقم منك.

دعم أميركا للشاه المتسلّط والفاسد دفع بعض معارضيه إلى أن يتقرّبوا من الاتحاد السوفيتي الذي كان على حدود إيران في أفغانستان

بالتأكيد، لم تأتِ هذه السياسة فجأة ومن دون المرور بفترات تجربة مُرّة، أدّت إلى خسائر كبيرة، تسبّبت بها المواجهات المباشرة في كوريا وفيتنام وأفغانستان والعراق. كما أنّ التجارب المُرّة كانت أيضاً في دعم الولايات المتحدة أنظمة قمع فاشية وفاسدة مثلما حصل في أميركا اللاتينية وآسيا والشرق الأوسط وإفريقيا.

المواجهات المباشرة: أميركا نموذجاً

دفعت الولايات المتحدة الأميركية عشرات الآلاف من القتلى في المواجهات المباشرة التي رافقها اكتساب سمعة سيّئة واتّهامات صحيحة باستهداف المدنيين، أو على الأقلّ بعدم ضمان أمنهم حسب المعايير المتوافق عليها في شرعة حقوق الإنسان لدرجة تصل إلى جرائم حرب. في الحال الثانية حصدت الإدارات الأميركية سمعة سيّئة يمكن تلخيصها بالنفاق لأنّها تتحدّث عن معايير الحرّية والديمقراطية وتدعم الظلم والفساد والدكتاتورية.

أحد وجوه الدعم لأنظمة فاسدة وسلطوية كان ما حصل أيام الشاه محمد رضا بهلوي الذي ورث الإمبراطورية الفارسية بانقلاب على والده رضا بهلوي في سنة 1941 بدعم من الحلفاء الغربيين الذين أرادوا قطع الطريق على تعاون مُفترض بين الشاه الوالد والزعيم النازي أدولف هتلر.

المهمّ هو أنّ الشاه الجديد، الذي لقّب نفسه بـ”شاهنشاه”، ويعني ملك الملوك، لم يختلف عن كلّ من سبقه في الحكم في إيران من حيث اعتبار نفسه وريث مؤسّس الإمبراطورية “قورش” قبل 2,500 سنة.
حمت دول التحالف حكم الشاهنشاه بعد الحرب العالمية الثانية. كما أنّ التعاون الأميركي – البريطاني أعاده إلى الحكم بعد ثورة “محمد مصدّق” سنة 1953. لكن مع أفول نجم الإمبراطورية البريطانية وتسليمها مقاليد السلطة الكونية للإمبراطورية الأميركية الأقوى، أصبحت أميركا الراعي الأكبر للشاه، وبالتالي دعمت حكمه وسلّحت جيشه، وكان يُشكّل ما سمّي وقتها بشرطيّ الخليج، الذي كان يضمن توازن قوى يردع الدول العربية النفطية عن أيّ مغامرة قد تزعزع سلطة “الأخوات السبع”، شركات النفط الكبرى التي سيطرت وما زالت، مع بعض التعديلات، على أسواق النفط في العالم.

بالعودة إلى لبنان وحرب المشاغلة القائمة، فقد أصبح واضحاً أنّ ما ردع إسرائيل عن توسيع الحرب بشكل يشبه ما يحصل في غزة هي أميركا

لكنّ دعم أميركا للشاه المتسلّط والفاسد دفع بعض معارضيه إلى أن يتقرّبوا من الاتحاد السوفيتي الذي كان على حدود إيران في أفغانستان. وهناك أيضاً من يؤكّد، من الرفاق الذين توقّف الزمن عندهم في أيام البولشفيك، أنّ عودة الخميني إلى إيران سنة 1979 أتت في سياق منع تطوّر الأمور إلى ثورة مؤيّدة أو متفاهمة مع الاتحاد السوفيتي. يعني أنّ التخلّي عن الشاه أتى في هذا السياق، أي استبدال إمكانية وجود قوى ثورية يسارية في السلطة تُحسب في ميزان الحرب الباردة الدقيق لمصلحة السوفيت، بسلطة دينية محافظة ورجعية، وبالتالي من المستبعد أن تتحالف مع المعسكر الشرقي “الملحد”. والواقع أنّ ما فعله الخميني يومها كان أبعد من ذلك بكثير، فقد قضى على كلّ الحركات اليسارية في إيران بمجرد تمكّنه من القبض على مفاصل السلطة.

الخمينيّ وشعار “الموت لأميركا”

لا شكّ أنّ جمهورية الخميني رفعت منذ اليوم الأوّل تقريباً شعاراً شعبوياً له صداه الرنّان في عقول شعوب العالم الثالث، ومن ضمنه الجمهور العربي، وهو “الموت لأميركا”، ووصفها بـ”الشيطان الأكبر”. ومنّا من يعتقد أنّ هذه الجمهورية مرّغت أنف أميركا بالوحل في قضايا عدّة، أهمّها قضية احتجاز طاقم السفارة الأميركية في طهران.

خميني شاه..

حسبما يبدو أنّ هذه الجمهورية من باب العداء للشيطان الأكبر أخذت دوراً محورياً في تدعيم دور أميركا في المنطقة، لا بل تعزيزه بشكل مضاعف. هذا الدور انطلق مع الحرب الطويلة مع العراق أيام صدام حسين، حتى إنّ الولايات المتحدة دفعت لإطالة أمد الحرب وباعت أسلحة للطرفين، فتحوّل دور إيران من شرطيّ أيام بهلوي شاه إلى بعبع أيام خمينيّ شاه. 

إيران

لقد تمكّنت الولايات المتحدة من الاستفادة من طموحات ولاية الفقيه من خلال تركها في كثير من الأحيان تسرح وتمرح من دون رادع، جاعلة أعداءها يتقاتلون فيما بينهم بعيداً عنها. كما أنّ ذلك دفع كثيرين أكثر إلى حضنها من أجل الحماية.

 يستند استمرار الحزب في إشغال إسرائيل إلى اتّكال إيران على الضوابط الأميركية للعدوّ

بالعودة إلى عنوان المقالة حول اتّكال إيران على الشيطان الأكبر، فأنا على عكس معتنقي مبدأ المؤامرة القائل بأنّ إيران متّفقة مع الغرب على العرب، فلا حاجة إلى بناء مؤامرة كهذه بشكل رسمي، بل إنّ الظروف المؤاتية لها تأتي من حال العداء بين أطرافها وليس بالضرورة من قبيل التحالف. هذا الأمر اليوم هو ما جعل الولايات المتحدة تتفهّم حاجات إيران إلى إثبات وجودها من خلال وكلائها لمجرّد استدامة دورها. فلا أحد يقتنع بأنّ الردّ الغربي على مسألة تهديد الملاحة في البحر الأحمر يتلخّص بقصف مواقع إطلاق الصواريخ والمسيّرات، في حين أنّ المنطق يفرض دعم حكومة اليمن لهزيمة الحوثيين، أو أن تذهب أميركا التي تعرف من أين تأتي أوامر الحوثيين وصواريخهم إلى ردع مشغّلهم.

إقرأ أيضاً: كيف تقضي الرأسماليّة الصهيونيّة على قوّة أميركا الناعمة؟

لكن بالعودة إلى لبنان وحرب المشاغلة القائمة، فقد أصبح واضحاً أنّ ما ردع إسرائيل عن توسيع الحرب بشكل يشبه ما يحصل في غزة هي أميركا المتفهّمة لحاجات إيران الترويجية لكونها الداعم الوحيد لمسيرة “طريق القدس”، وفي الوقت ذاته الساعية إلى التفاهم مع أميركا بالذات على مدى نفوذها في المنطقة. هذا لا يعني أنّ إسرائيل غير متهيّبة لضرر الحرب المحتملة إن فُتحت في الجنوب، فعلى الأرجح لن تتمكّن أيّ قبب حديدية من منع كلّ الصواريخ من الوصول إلى أراضيها، في وقت لا يبدو أنّ المشاركة الغربية مضمونة.

من هنا، يستند استمرار الحزب في إشغال إسرائيل إلى اتّكال إيران على الضوابط الأميركية للعدوّ. هذا لا يعني أبداً أنّ الأمور ستبقى مضبوطة وأنّ حدثاً ما خارج العاديّ لن يؤدّي إلى انزلاق الأمور نحو حرب شاملة.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@allouchmustafa1

مواضيع ذات صلة

سقط بايدن… فاستقبل الحزب وساطة ألمانيّة

يضع الغياب الأميركي، سياسياً على وجه التحديد، إسرائيل و”الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران وجهاً لوجه في لبنان. تكرّس الغياب الأميركي مع السقوط الذريع للرئيس جو بايدن…

من أشعل فتنة سوريّة تركيّة.. على مشارف لقاء الأسد – إردوغان؟

بعد ساعات فقط على تبادل الرسائل السياسية الانفتاحية بين تركيا وسوريا، وبين بشار الأسد ورجب طيب إردوغان، تحرّكت أيادٍ خفيّة في مدن تركية، أبرزها قيصري،…

خريف “الماكرونيّة” المبكر: فرنسا تنشغل بنفسها

كان واضحاً منذ اللحظة الأولى أنّ الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة مغامرة غير محسوبة العواقب، خاضها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من دون أن يقدّم تفسيراً…

سلوك الحزب في لبنان وسوريا يمنع شطب تصنيفه إرهابيّاً؟

فوجئ كُثُر بإعلان الأمين العامّ المساعد للجامعة العربية السفير حسام زكي السبت الماضي بأنّ الجامعة لم تعد تعتبر الحزب إرهابياً. فالقرار لم يصدر عن مجلس…