“مرّ الكلام زي الحسام يقطع مكان ما يمرّ
أمّا المديح سهل ومريح يخدع لكن بيضرّ
والكلمة دين من غير إيدين بس الوفا عالحرّ” (أحمد فؤاد نجم)
كنت أحضر احتفالاً في جامعة تولاين العريقة في نيو أورلاينز بلويزيانا الأميركية، تلك المقاطعة التي باعها نابوليون بثلاثة ملايين دولار منذ قرنين، وما زالت تحتفظ ببعض ذكرياتها الفرنسية في أسماء الشوارع وبعض الهندسة في البناء، وما زالت حتى اليوم ترمّم ما خلّفه إعصار كاترينا منذ عقدين من الزمن، وما زال سكّانها عالقين في رعب تلك اللحظات القاتلة عندما هجم البحر ونهر المسيسيبي على البيوت وابتلعها مثل تنّين أسطوري، في مشهد يبيّن قوّة الطبيعة التي لا يواجهها شيء مهما بلغت حذاقة البشر في اللعب. باختصار، شاهدت صبيّة لبنانية تتسلّم جائزة التميّز في الجامعة وهي تنال أيضاً شهادة الدكتوراه، لكنّها كانت تضع على كتفيها الكوفية الفلسطينية كتعبير عن موقفها ممّا يحدث في فلسطين، في جامعة نصف طلّابها وأساتذتها من اليهود، وكذلك معظم داعميها. ففكّرت بما هو السرّ الذي يدفعنا نحن إلى تصدير أبنائنا إلى أميركا، ومعظمهم يبقون ولا يعودون، فكتبت ما يلي.
جاذبيّة الجامعات الأميركيّة
من بين كلّ القيم الجذّابة التي جعلت من الولايات المتحدة الأميركية قبلة للنخب العلمية والبحثية في العقود الماضية، كانت القوة الناعمة المتمثّلة بالجامعات حيث الإبداع غير المحدود إلا بالقدرات. قناعة أنّ الفكر الحرّ في الحياة الأكاديمية، كما حرّية التعبير عنه، أتت لتصبح جوهر الحقوق القانونية وقاعدته الأساسية التي تشتمل على حرّية الفكر والبحث كما حرّية التعليم، خاصة في المستويات الجامعية. مبادئ الحرّية الأكاديمية وضعتها مجموعة من الأساتذة الجامعيين سنة 1915 معتمدين بشكل أساسي على التقاليد الجامعية الألمانية التي أصبحت القاعدة العالمية للبحث العلمي المتميّز. باختصار، تؤكّد تلك القواعد أهمّية حرّية البحث الجامعي لتقدّم البشرية، وأنّه بمجرّد كون الباحث الأكاديمي حاصلاً على موقعه، لا يمكن للسلطة الجامعية أن تتدخّل في مجال بحثه ولا في محتوى أو طريقة تعليمه. مسؤولية الباحث تبقى أمام الرأي العامّ وأمام أمانته المهنية. ومن واجب السلطات الجامعية الالتزام بهذه المبادئ ورعايتها وحمايتها.
يحفظ القانون الأميركي حقّ التعبير في حرم الجامعات، بغضّ النظر عن مدى عدائية محتوى هذا التعبير، ويعتبر هذا الحق مضموناً في الدستور الأميركي
يحفظ القانون الأميركي حقّ التعبير في حرم الجامعات، بغضّ النظر عن مدى عدائية محتوى هذا التعبير، ويعتبر هذا الحق مضموناً في الدستور الأميركي، ولا يحقّ حتى لإدارة الجامعة المعنيّة منع حقّ التعبير تحت طائلة المسؤولية القانونية. حدود هذا الأمر هو ألّا تؤدّي حرّية التعبير إلى ترهيب الآخرين أو التعرّض لأمنهم والتسبّب بالأذيّة.
الجامعات ليست السبب الوحيد؟
لكن ليس هذا هو السبب الوحيد وراء جاذبية أميركا للنخب الأكاديمية، وهي التي جعلت منها تحوي العدد الأكبر من حاملي جائزة نوبل في مختلف أصناف العلوم والفنون. أربعون في المئة من جوائز نوبل الأربعمئة على مدى أكثر من قرن من الزمن مُنحت لأميركيين، لكنّ اللافت هو أنّ ثلث هؤلاء كانوا من المهاجرين الجدد إلى أميركا. أي كان باستطاعة نبوغهم في بلدهم أن يوصلهم إلى الجائزة، لو توافرت لهم الظروف والشروط المناسبة لذلك. من ضمن تلك الشروط طبعاً تأتي حرّية البحث والتعبير والحماية الأكاديمية، لكنّ ذلك لا يكفي، فعامل المال يدخل حتماً ليحسم الأمر. فما عدا أنّ الباحثين والساعين إلى درجة الدكتوراه في الولايات المتحدة في كلّ المجالات يتقاضون رواتب سخيّة، في معظم الأحيان، بالمقارنة مع كلّ دول العالم تقريباً، لكنّ تراتبية الجامعات من حيث القيمة تأتي أيضاً بناءً على احتوائها على العدد الأكبر من الباحثين المعروفين والأكثر إنتاجاً وابتكاراً، وعلى نوعية وكميّة الأبحاث التي تصدر باسم الجامعة.
وبالتالي عادة ما يأتي الدعم الماليّ الفدرالي والدعم الآتي من الولاية أو المدينة على هذا الأساس، لكنّ الأهمّ في الدعم هو ما يأتي من المتموّلين والمؤسّسات والشركات، وهو ما يستند عادة إلى جعل المؤسسة التعليمية مؤطّرة ضمن توجّهات الداعمين، أكانت سياسية أم اجتماعية أم دينية أم مصلحيّة تجارية. من هنا يلعب الدعم المالي الدور الأكبر في توجيه سياسات تلك الجامعات على الرغم من قضية حرّية البحث والتعبير والتعليم. هنا تقع إدارة الجامعات في معضلة الموازنة بين سعيها إلى الحفاظ على سمعتها الأكاديمية والتزامها بمبادئ الحرّية الأكاديمية، واجتذابها لطلاب من خلفيات متنوّعة وعابرة للحدود، مع مسألة الدعم السخيّ الذي تحتاج إليه تلك الجامعات من المتبرّعين الذين يريدون دعم توجّهاتهم الدينية والسياسية والاجتماعية من خلال البحث الأكاديمي.
الحقيقة العامة في أميركا مبنيّة على ما يصل من معلومات سهلة ولا تحتاج إلى البحث والتدقيق
الكلمة لمن يملك المال
لمن يستغرب ما يحدث اليوم في جامعات أميركا من خرق وتنكيل بكلّ المبادئ الأساسية التي جعلت منها القوّة الناعمة الكبرى في العالم، أي الحرّية المطلقة للأفراد في التعبير عن ذواتهم من دون عوائق، يجب أن يفهم أنّ النظام الرأسمالي أيضاً مرتبط بمن يملك المال والقدرة على المبادرة المؤثّرة لاستثماره في أيّ شيء يمكن شراؤه، ومن ضمنه بالطبع العقول، إن لم يكن بالمكافأة، فبالعقاب والحرمان. هذا ما أدركته الصهيونية مبكراً، فوضعت كلّ ثقلها وتأثيرها في مواقع التأثير المطلق على الرأي العام، فكان ثلاثي الإعلام والسينما والجامعات هو ما يصنع الرأي العام، وبالتالي فإنّ الحقيقة العامة في أميركا مبنيّة على ما يصل من معلومات سهلة ولا تحتاج إلى البحث والتدقيق. قد يفرح الكثيرون منّا بما يحدث في الجامعات اليوم من صحوة ضمير تجاه قضية فلسطين والظلم اللاحق بأهلها، لكنّ هذا الأمر قد يصبح طيّ النسيان في بداية العام الدراسي المقبل، ليس لضعف القضية التي يدافعون عنها، بل لضعف القدرات على الصمود والمتابعة أمام جبروت الرأسمال، معظمه صهيوني الطابع، أكان سياسياً استعمارياً ملحداً أم يهودياً قومياً غير ديني أم إنجيلياً عالقاً في رؤيا عودة المسيح.
إقرأ أيضاً: النكبة تتكرّر بتدخّل أميركيّ أيضاً