تراجعت قنبلة إيران النووية عن واجهة الحدث في العالم منذ أن باتت الأولويّة في الشرق الأوسط هي “قنبلة” غزّة. وفيما كانت التقارير الدولية والمواقف السياسية تحذّر من قرب إيران من العتبة النووية الكبرى، فإنّ البرنامج النووي الإيراني استمرّ في العمل بعيداً من ضجيج التهويل والتحذير المعلن على نحو يوحي إمّا بالطبيعة السياسويّة للهلع من مخاطر ما تُعدُّه طهران أو بتعايش ملتبس مع حقيقة القنبلة وربّما حتميّتها.
لعبة أدوار مملّة
اللافت أنّ الولايات المتحدة لم تعد ترى في السلوك النووي الإيراني خطراً يستدعي التحرّك العاجل والصارم. فحتى حين تستيقظ الترويكا الأوروبية: فرنسا، ألمانيا، بريطانيا على قلق من تصرّفات مشبوهة في مستويات تخصيب اليورانيوم لدى أجهزة الطرد في إيران، فإنّ واشنطن تخفّف من توتّر شركائها الأوروبيين ولا ترى ضرورة للتصدّي لإيران داخل مجلس المحافظين التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرّية، وطبعاً لا ترى لزوماً لنقل الملفّ إلى مجلس الأمن.
قد يكون الأمر ليس إلا لعبة توزيع أدوار مُملّة بين الولايات المتحدة وشركائها الغربيين في مجموعة دول 5+1 (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، روسيا، الصين). فلطالما لعبت باريس ولندن وبرلين دور الوسيط للتخفيف من حدّة المواقف الإيرانية الأميركية. عملت الدول الثلاث خلال كلّ جولات التفاوض السابقة على تدوير الزوايا وإزالة التحفّظات وتبديد المخاوف بغية إعادة إنعاش اتفاق فيينا لعام 2015 حتى لو استدعى الأمر تصحيحاً في نصوصه وترميماً لها. لكنّ الأمر انقلب في الأشهر الأخيرة، وبالتحديد منذ انفجار المنطقة بعد “طوفان الأقصى”، فغدت واشنطن حملاً وديعاً تهدّئ من روع “ذئاب” أوروبا الثلاثة.
تعبّر الولايات المتحدة عن مسار متذبذب في التعامل مع تحدٍّ تعتبره خطيراً على أمن الشرق الأوسط والعالم
لكنّ الأمر لا يتعلّق فقط “بالطوفان”. ففي شباط 2023 خرج وليام بيرنز، مدير وكالة المخابرات المركزية بتصريح غريب اعتبر فيه أن لا أخطار عسكرية حتى الآن من برنامج إيران النووي ما دامت الجمهورية الإسلامية ملتزمة بفتوى المرشد الأعلى علي خامنئي لعام 2003 بتحريم صنع أسلحة نووية. وكان حينها مستغرباً أن يصدر عن الـ CIA استنتاج “إيمانيّ” بصدد هذا الملفّ في وقت كان فيه البنتاغون يعتبر أنّ إيران على بعد أيام من إنتاج قنبلتها.
مسار أميركيّ متذبذب
تعبّر الولايات المتحدة عن مسار متذبذب في التعامل مع تحدٍّ تعتبره خطيراً على أمن الشرق الأوسط والعالم. وبغضّ النظر عن مصالح واشنطن في شيطنة البرنامج النووي الإيراني يوماً والاطمئنان إلى فتوى مرشدها يوماً آخر، فإنّ واشنطن تعاملت مع هذا الملفّ وفق حسابات ظرفية، بما في ذلك وفق أجندات تختلف بين جمهوريين وديمقراطيين. فإذا ما نجحت إدارة الديمقراطي باراك أوباما في جرّ بقيّة دول مجموعة 5+1 إلى اتفاق فيينا الشهير عام 2015، فإنّ الجمهوري دونالد ترامب تفاخر بقرار انسحاب بلاده من الاتفاق عام 2018 مع ما يعنيه ذلك من تفلّت إيران من الالتزامات والقيود والقواعد التي فرضها ذلك الاتفاق على البرنامج النووي الإيراني برمّته.
تخرج هذه الأيام احتمالات إنتاج قنبلة نووية إيرانية من سطور قرار ترامب بنسف اتفاق فيينا. تقيّدت إيران بموجب ذلك الاتفاق (المسمّى “خطّة العمل الشاملة المشتركة”) بمستوى تخصيب لليورانيوم لا يتجاوز نسبة 3.67% من بين قيود أخرى يتضمّن أحدها ما يتعلّق بمخزون الكمّيات المخصّبة. ردّت إيران على خروج الولايات المتحدة من الاتفاق برفع نسب التخصيب إلى نسبة وصلت في مرحلة أولى إلى 20 في المئة لتستقرّ، وفق ما تقوله طهران، على نسبة 60 في المئة، وهي نسبة “لا تقوم بها أيّة دولة في العالم تستخدم المفاعلات النووية لأغراض سلمية”، وفق تصريحات رافائيل غروسي، المدير العامّ للوكالة الدولية للطاقة الذرّية.
تراجعت قنبلة إيران النووية عن واجهة الحدث في العالم منذ أن باتت الأولويّة في الشرق الأوسط هي “قنبلة” غزّة
كانت الوكالة كشفت العام الماضي عن وجود آثار تخصيب لليورانيوم وصلت إلى نسبة 83.7 في المئة في منشأة فوردو. والرقم مرعب إذا ما عرفنا أنّ صناعة قنبلة نووية يحتاج إلى تخصيب بنسبة 90 في المئة. قال حينها غروسي إنّ “إيران قريبة من إنتاج قنبلتها”، وصحّح لاحقاً تصريحه بأنّ تلك الحقيقة لا تعني أنّ إيران بصدد تصنيع قنبلتها. وما بين لغة النِسب والعلوم النووية يتأكّد لخصوم إيران قبل أصدقائها أنّها باتت تمتلك بشكل كامل تقنية تصنيع القنبلة وأنّ الأمر مسألة وقت وقرار.
الفتوى، وفق المنهج الإيراني، هي قرار سياسي، وقد أصدرها المرشد عام 2003 لدواعٍ سياسية ارتبطت بقرار إيران بالتماسّ والعالم والتفاوض بشأن برنامجها النووي. وبالتالي فإنّ تعديل تلك الفتوى، العزيزة على قلب مدير الـ CIA، هو أيضاً قرار سياسي يسهل اتّخاذه وتبريره ودعمه بفتوى جديدة تحلّل ما كان محرّماً. والأمر ليس افتراضاً بل حقيقة عبّر عنها، من بين آخرين، مستشار المرشد، وزير الخارجية الأسبق كمال خرازي، الذي اعتبر في 9 أيار الماضي أنّ “طهران ستضطرّ إلى تغيير عقيدتها النووية إذا تعرّضت لتهديد وجودي من قبل إسرائيل”. قبل ذلك في 18 نيسان حذّر قائد هيئة حماية المنشآت النووية الإيرانية العميد أحمد حقّ طلب من أنّ “من الممكن مراجعة سياستنا النووية إذا حاولت إسرائيل ضرب منشآتنا”. وجاءت هذه المواقف في سياق التوتّر الخطير الذي أعقب قصف إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق.
ما بين لغة النِسب والعلوم النووية يتأكّد لخصوم إيران قبل أصدقائها أنّها باتت تمتلك بشكل كامل تقنية تصنيع القنبلة وأنّ الأمر مسألة وقت وقرار
مخالب أوروبيّة بديلة
وفق حسابات واشنطن وطهران هذه الأيام وبناء على ما نشط من تواصل بين العاصمتين، سواء في مسقط أو نيويورك، فإنّ إدارة الملفّ استدعت إخراج أوروبا مخالبها ضدّ إيران تعويضاً عن امتناع واشنطن عن شهرها. بدا الأوروبيون وكأنّهم يأخذون دوراً أميركياً لا تستطيعه هذه الأيام بسبب ما تحتاج إليه إدارة الصراع الراهن في الشرق الأوسط من أدوار إيرانية تتفحّصها واشنطن وتدرس أثمانها. دعمت الولايات المتحدة على مضض ما قيل إنّه إصرار أوروبي على إدانة إيران في اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكن لا مفاعيل حقيقية لهذه الإدانة إلا إذا أحيل الملفّ إلى مجلس الأمن ليأخذ القرار العقابي المناسب.
إقرأ أيضاً: كيف حمّل بايدن “الحركة” مفتاح السلم في غزّة؟
في حال قدّمت الدول الثلاث دعوة إلى ذلك المجلس تطلب فيها عودة العقوبات الأممية على إيران، فإنّ هذه العقوبات تصبح سارية المفعول دون الحاجة إلى مصادقة جديدة من أعضاء مجلس الأمن الدولي. كما أنّ روسيا والصين لن تكونا قادرتين حينها على نقض هذا القرار، ومنع عودة العقوبات الدولية على طهران. لم يفعل مجلس المحافظين ذلك، ولا أحد طلب ذلك أساساً. فإضافة إلى “الحنان” الأميركي الطارئ، تواطأ ثلاثي أوروبا مع الولايات المتحدة على الاكتفاء بالضغوط من دون عقاب، ذلك أنّ “الطوفان” الذي يواري “القنبلة” يردّ عن إيران غضباً غير محسوب.
لمتابعة الكاتب على X: