مجدُ لبنان الاقتصادي أُعطيَ لمصرف لبنان

مدة القراءة 7 د

مجد لبنان الاقتصادي وخشبة خلاصه أُعطيا لمصرف لبنان. لأنّ الطبقة السياسية أصبحت فاقدة للهويّة الوطنية، وفادقة لإرادة أداء مهامّها وتحمّل مسؤوليّاتها. كلّ كلمة يلفظها الحاكم توضع في هذا الإطار. ولابأس على الحاكم الدكتور وسيم منصوري أن يتذكّر دائماً هذا المجد.

 

من واجب السلطة النقدية أن تشرح للمواطن الأسباب الموجبة وراء أدائها بطريقة معيّنة، وتبيان توقّعاتها لجهة تداعيات هذه الخطة على معيشة المواطن وعيشه: هل تنتج هذه الخطة ضغوطات تضخّميّة؟ هل علينا أن نتوقّع انكماشاً اقتصادياً ينتج عنه صرف موظّفين من الخدمة، وصعوبة إقرار زيادات على الرواتب والأجور؟

من الخطأ أن تتوجّه السلطة النقدية إلى المواطن لشرح الأسباب الموجبة وراء “عدم الأداء” في محاولة لتبرير “الجمود في المشهد النقدي” حتى تقع الملامة والمسؤولية في مكان آخر. هذا الأداء، ومن دون حكم على النوايا، هو أشبه بالأداء السياسي في محاولة للحفاظ على القاعدة الشعبية الناخبة لا النخبة لأنّ هذه الصفة الحميدة تسقط عمّن ينتخب الفاسد للحكم.

المتحدّث الرسمي باسم السلطة النقدية هو رئيسها، الحاكم، أو من يكلّفه هو رسمياً. استثمر الحاكم وجوده في مؤتمر “مبادرة تمكين المهاجرين” تحت عنوان “نعم نستطيع” – Yes We Can، الذي عُقِد في صرح جامعة بيروت العربية في فرعها في طرابلس عاصمة الشمال، ليتحدّث بصدق وبصراحة مع المواطن اللبناني. ومن خلاله وجّه لأصحاب المعالي والسعادة والسيادة رسائل عديدة، البعض منها كانت اتّهاماً بالفشل، والبعض الآخر ملامة، ورسائل أخرى هدفت إلى إيقاظ ما بقي من ضمير مهنيّ ووطني فيهم، وهنا أتحدّث عن الأداء في السلطة لا غير.

أعاد الحاكم الكرة إلى ملعب المركزي في الركيزة الثالثة عند التشديد على أنّه لا يمكن النموّ بلا مصارف

الحاكم “بالإنابة”… وصلاحيات “الأصيل”

تحدّث الحاكم بالإنابة، الذي من دون شكّ ينعم بصلاحيات الأصيل وفق قانون النقد والتسليف، عن عناوين عديدة. وابتدأ، بعد التحيّة، بتوحيد أسعار الصرف. وهو عنوان لطالما تردّد على ألسنة الناس وخضع لنهج الترغيب والترهيب في توصيفه وشرحه تارة، وتارة أخرى عندما يتعذّر على المتحدّث الشرح يرميه في ملعب صندوق النقد الدولي بقوله: “هذا ما أراده الصندوق”. “توحيد سعر الصرف هو الحلّ الأساسي للأزمة النقدية”. كانت العبارة ذاتها التي استخدمها الحاكم منصوري أمام الأندية اللبنانية في واشنطن على هامش مشاركته في اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدوليَّين. وهذه العبارة المثقلة بالمسؤولية هدفت بالشكل إلى اقتراح حلّ، وبالنوايا إلى توجيه اتّهام إلى مكوّنات السلطة الحاكمة وإبراء ذمّة المركزي.

فهل توحيد أسعار الصرف في المصارف يقع خارج نطاق مسؤولية المركزي!

لتأكيد أهمّية “توحيد أسعار الصرف” وليس “تحرير سعر الصرف”. وهو الإجراء المطلوب الذي يتناغم مع علم الاقتصاد لأنّ التحرير يؤدّي إلى إنتاج سعر صرف واحد ويكون نتيجة العرض والطلب والتبادل الحرّ في سوق القطع الأجنبي، قال منصوري إنّه عند إرساء هذا الحلّ (توحيد أسعار الصرف وفق الحاكم)، يمكن الانتقال إلى تطبيق أربع ركائز ضرورية للوصول إلى حلّ شامل للأزمة، مشدّداً على أنّ هناك ضرورة لـ:

1- الحوكمة في إدارة البلاد التي تنعكس إيجابياً على المالية العامة.

2- تنظيم العلاقة بين المصارف والمودعين، بشكل خاص، والمجتمع اللبناني بشكل عام، وإيجاد حلّ للودائع العالقة في الحسابات المصرفية.

3- عودة المصارف إلى خدمة الاقتصاد بشكل فاعل.

4- إطلاق عجلة الإصلاح وإعادة بناء الدولة بكلّ مكوّناتها.

الحوكمة… والودائع

نجح الحاكم منصوري بالتخفيف من تداعيات جرثومة الفساد السياسي على المركزي. في خطابه هذا اعتمد سياسة تحميل مسؤولية الأزمة في مكان آخر، وإبراء ذمّة المركزي ونفض يديه من أيّ مسؤولية في التعامل مع المصارف.

مصرف لبنان هو سلطة تنفيذية ورقابية تحظى بثقة المجتمع اللبناني، أفراداً ومؤسّسات وخصوصاً بعد تسلّم وسيم منصوري الحاكمية

عنوان الحوكمة، الركيزة الأولى، دفعت إلى القول إنّه لا سبيل للمساءلة والمحاسبة سوى القضاء، وإنّه قدّم كلّ المستندات للقضاء. أنا أقول الحوكمة أوّلاً، والمساءلة والمحاسبة شأن آخر وفي مكان آخر. غياب الحوكمة واضح للجميع وإصلاح ذلك يكون في الإدارة والمناقبية المهنية. أمّا المساءلة والمحاسبة فتكونان في الجسم القضائي، ومن يحاسب يحتاج إلى حقائق وإثبات لأنّ في القضاء “الفرد بريء حتى تثبت إدانته”. وقد يستغرق ذلك وقتاً طويلاً. اعتماد الحوكمة الرشيدة نهجاً لإدارة المرفق العامّ، والمساءلة (أشبه بتقويم الأداء) وتفعيل عمل السلطات الرقابية (التفتيش المركزي وديوان المحاسبة ولجنة الرقابة على المصارف وغيرها) تحقّق نتائج أكيدة في وقت قصير، عكس المحاسبة في القضاء التي تتغذّى من الثغرات في القوانين ومن الفساد السياسي وتُدخله في القضاء.

في الركيزة الثانية، أشار الحاكم إلى أنّ المصرف المركزي يعمل على إيجاد حلّ متين لمشكلة الودائع. كان اختيار المفردات مقلقاً. يعلم مصرف لبنان بأنّ الودائع هي مسؤولية والتزام أخلاقي قبل أن تدخل القوانين والسياسات النقدية هذا المشهد. يعلم سعادة الحاكم بأنّ العمل المصرفي وتقديم هذه الخدمات وُجِدا ونجحا قبل وجود القوانين والتشريعات وبُنيا على الثقة والمناقبية المهنية. من المؤكّد أنّ الودائع ليست بمشكلة، والطبقة السياسية هي الجهة التي تستفيد من إظهارها بأنّها مشكلة، وأنا على ثقة بأنّ الحاكم هدف من كلامه إلى التنبيه من ذلك.

وإذا كنّا نسلّم جدلاً بأنّ العائق الأساسي هو حجم الودائع بالعملات الأجنبية البالغ 88 مليار دولار، عندها يقع القسط الأكبر من المسؤولية على مصرف لبنان (بإدارة سلفه رياض سلامة وليس في عهده بالطبع) لأنّه لم يمنع المصرف (أو المصارف) من استقطاب كمّية من السيولة والالتزامات (ودائع – Liabilities) خارج إطار قدرته على حمايتها والحفاظ عليها من خلال توظيفات مدروسة بدقّة وتأنٍّ. وضعُ حدّ لحجم الودائع في كلّ مصرف هو من مسؤولية المصرف المركزي وصلاحيّته الحصرية.

نجح الحاكم منصوري بالتخفيف من تداعيات جرثومة الفساد السياسي على المركزي

سلامة القطاع المصرفي

أعاد الحاكم الكرة إلى ملعب المركزي في الركيزة الثالثة عند التشديد على أنّه لا يمكن النموّ بلا مصارف، لأنّ سلامة القطاع المصرفي هي من المسؤولية الأساسية للمصرف المركزي ومن الخطأ رميها في أيّ ملعب آخر. لكنّه جعلها من مسؤولية السلطة التشريعية.

تعدّى الحاكم صلاحيّاته في الركيزة الرابعة، فإنّ مناقشة الإصلاحات وإعادة بناء الدولة هي شأن سياسي. ابتعاد رئاسة السلطة النقدية عنه يحميها من تهمة التبعية السياسية. ويؤكّد للمواطن استقلالية السلطة النقدية وعدم خضوعها في ممارسة الرقابة وحماية القطاع المصرفي وغير ذلك للاصطفاف السياسي. هذه الملاحظة باتت ضرورية بعد الأخذ بعين الإعتبار أداء الحاكم السابق، وتعاطي الطبقة السياسية مع المصرف المركزي.

إقرأ أيضاً: احترام المهمل الدّستوريّة لا يُبرر سوء الأداء

مصرف لبنان هو سلطة تنفيذية ورقابية تحظى بثقة المجتمع اللبناني، أفراداً ومؤسّسات. وخصوصاً بعد تسلّم الدكتور وسيم منصوري الحاكمية بصلاحيات الحاكم الأصيل، وفريق عمله نواب الحاكم والمدير العام لوزارة الاقتصاد وغيرهم. ومع هذه الثقة تأتي مسؤولية كبيرة ويجب على السلطة النقدية أن يكون أداؤها على حجم وطبيعة المسؤولية.

 

* باحث في الشؤون الاقتصادية والمصرفية.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…