احترام المهمل الدّستوريّة لا يُبرر سوء الأداء

مدة القراءة 7 د

عندما تتخبّط الأوطان بالأزمات، ويكون السلطان موجوداً بالاسم، لكن بالأداء مات، يتغيّر ويتعدّل التوقيت، فيجب اعتماد لجهة قدرة المواطن على الصمود “التقويم القططيّ”، أي كلّ مواطن بدّو سبع رواح، وعلى صعيد الإصلاح وتصويب الأداء.

أعلن وزير المال في حكومة تصريف الأعمال يوسف الخليل أنّ الوزارة ملتزمة تقديم الموازنة العامة لعام 2025 في موعدها الدستوري. وبهذا تكون بالشكل شبيهة سابقتها موازنة موازنة 2024، ومن المؤكّد أنّها ستكون فاقدة لقطع حساب للسنوات الماضية كما هو مطلوب في نصوص الدستور، ولن تختلف بمضمونها عن سابقاتها. بكلّ المعايير، لقد أصيب الجزء الأكبر من مكوّنات القطاع العام بالموت السريري: لا فائدة منها، ووجودها مكلف. صدق القول “إكرام الميت دفنه”. 

 

إليكم مثالاً على ما أدّعي في وصفي لوضع القطاع العام اليوم. في الوقت الذي يشتكي فيه جميع المواطنين من انعدام الخدمات في القطاع العام، تقترح السلطة الحاكمة مشروع رفع رواتب وأجور موظّفي الدولة وتُقرّ زيادات لهم، فيما لا منفعة منهم، ووجودهم مكلف. ولهذه النقطة وجب التوضيح. من أخطأ هنا ومن أصابه الموت السريري ومن لا منفعة منه ليس موظف القطاع العام (حفظه الله)، بل الوزارة أو المديرية/الدائرة داخل الوزارة. هناك شبه شلل في بعض الدوائر: إقفال الدوائر العقارية والنافعة وغيرهما من فروع القطاع العام التي تقدّم خدمات يحتاج إليها المواطن. حفظ الله كلّ موظف وأعطاه القدرة على التحرّر من سلطة وتسلّط رؤسائه في الدولة.

المطلوب نهج جديد

أمّا عن موضوع الموازنة العامة، فهناك حاجة ماسّة إلى اليقظة واعتماد نهج جديد في إعداد الموازنات: نهج الموضوعية، والواقعية، والشفافية، ومشاركة الجميع في إعدادها. القاسم المشترك بين قوانين الموازنة العامة لعامَي 2022 و2024 (موازنتَيْ سنوات الأزمة) مجموعة من النقاط:

– غياب قطع حساب عن السنوات الماضية.

فقدان الواقعية لجهة الأزمة الاقتصادية التي يتخبّط بها لبنان منذ سنوات.

يمكن أن تشكّل الأزمات فرصة لتنفيذ إصلاحات هيكلية وتقليل الهدر المالي والفساد، وتعزيز الشفافية والمساءلة في إدارة المال العام

– كان الاقتصاد في كلتيهما الغائب الأكبر. الموازنة العامة لعام 2022 اعترفت ضمنياً في موادّها بمعاناة مكوّنات القطاع العام من الاستبعاد الاقتصادي، وجاءت موازنة 2024 لتأكيد ذلك.

-وأخيراً وليس آخراً، من صَوَّتَ على إقرارها تقدّم بالطعن في موادّها أمام المجلس الدستوري.

كان هذا واقع الحال. أمّا لجهة تصويب الأداء وليس الإصلاح: – الإصلاح يحتاج إلى إرادة وموارد. أمّا تصويب الأداء فيتطلّب توافر الإرادة للعمل. لم تأخذ وزارة المالية عدّة اعتبارات مهمّة عند إعداد الموازنة العامة، بما في ذلك:

– الاحتياجات والأولويّات الوطنية: تعكس الموازنة العامة أولويات الحكومة وأهدافها الاقتصادية والاجتماعية. وهذا يعني أنّه يجب أن تكون هناك خطّة، وأن تكون لهذه الخطة أهداف. لذلك يجب أن تأخذ الوزارة في الاعتبار الاحتياجات الوطنية الملحّة مثل التعليم، والرعاية الصحّية، والبنية التحتية، والأمن، وغيرها من المجالات التي تستدعي تخصيص موارد كافية.

– الإيرادات المتاحة: يجب أن تكون الموازنة العامة متوازنة، مما يعني أنّ الإنفاق يجب أن يتناسب مع الإيرادات المتاحة للحكومة. تقوم الوزارة بتقدير الإيرادات المتوقّعة من مصادر مختلفة مثل الضرائب، والرسوم، والقروض، وتضمن أنّ الإنفاق لا يتجاوز هذه الإيرادات بشكل يتخطّى قدرتها على تحمّل العجز.

– الديون والتمويل: يجب أن تأخذ الوزارة في الاعتبار أيضاً التزامات الديون الموجودة والمستقبلية للدولة، بالإضافة إلى خيارات التمويل المتاحة مثل القروض الداخلية والخارجية، وتحليل تأثيرها على الاقتصاد والدين العام.

– الاستدامة المالية: يجب أن تكون الموازنة العامة مستدامة على المدى الطويل، وتحقّق التوازن بين الإنفاق والإيرادات لضمان عدم تراكم الدين العام بشكل غير مستدام.

الأدلّة على فشل السلطة صاحبة الاختصاص في إعداد الموازنة العامة كثيرة وأهمّها وصول لبنان إلى نقطة عدم قدرة الدولة على خدمة الدين العام

– التوزيع العادل للموارد: ينبغي للوزارة أن تأخذ في الاعتبار توزيع الموارد بشكل عادل لضمان تحقيق العدالة الاجتماعية وتقليل الفجوات الاقتصادية والاجتماعية بين الطبقات المختلفة في المجتمع.

الأدلّة على فشل السلطة صاحبة الاختصاص في إعداد الموازنة العامة كثيرة، وأهمّها وصول لبنان إلى نقطة “عدم قدرة الدولة على خدمة الدين العام،” وإعلانها التوقّف عن الإيفاء بالتزاماتها تجاه الدائنين في آذار من سنة 2020. ونتج عن ذلك غرق لبنان، وطناً ومواطناً، في الأزمات، أزمة مصرفية وماليّة واقتصادية ومعيشية واجتماعية. ونحن ما زلنا اليوم بانتظار أرباب السلطة والشأن لاتّخاذ القرارات المناسبة لانتشال لبنان من أزماته، لكنّ كلّ ما نحصل عليه إنجازات وهميّة ووعود بتقديم مستند ورقي ضمن المهل الدستورية.

هل تفعلها وزارة المالية؟

الاعتبارات الإضافية التي يجب أن تأخذها وزارة المالية اللبنانية في الاعتبار، سواء تقدّم معالي الوزير بمشروع الموازنة العامة لعام 2025 ضمن المهل الدستورية أو ضرب بالدستور عرض الحائط:

الموازنة العامة

– الضرورة الإنسانية: في حالات الأزمات، تزداد الحاجة إلى التركيز على الاحتياجات الإنسانية العاجلة مثل الرعاية الصحّية، والإغاثة الاجتماعية، ودعم الفقراء والمحتاجين. لذلك قد تتغيّر الأولويات في الموازنة العامة لتلبية هذه الاحتياجات العاجلة.

– الإجراءات التحفيزية والإنقاذية: قد تتطلّب الأزمات تبنّي إجراءات تحفيزية لتعزيز الاقتصاد، مع التركيز على الاقتصاد الرسمي وليس على اقتصاد الظلّ/الكاش، ودعم الشركات والقطاعات الأكثر تضرّراً، وفي الوقت ذاته الأكثر إنتاجية، للتخفيف من اللجوء إلى الاستيراد لتلبية حاجة المواطن، بالإضافة إلى إجراءات إنقاذية لتجنّب الكثير من الانهيار الاقتصادي والماليّ والاجتماعي.

تعكس الموازنة العامة أولويات الحكومة وأهدافها الاقتصادية والاجتماعية وهذا يعني أنّه يجب أن تكون هناك خطّة

– الإصلاحات الاقتصادية والمالية: يمكن أن تشكّل الأزمات فرصة لتنفيذ إصلاحات هيكلية وتقليل الهدر المالي والفساد، وتعزيز الشفافية والمساءلة في إدارة المال العام. ولكن يجب الأخذ بعين الاعتبار أنّه على لبنان أن يخرج من هذه الأزمات بثبات. ولذلك على السلطة سلوك مسار الإنقاذ وتوفير حزام أمان اجتماعي في هذه المرحلة، ثمّ الإنعاش، وهذا يكون في مرحلة الاستقرار الاجتماعي والمجتمعي، ثمّ التعافي لجهة توافر القدرات والموارد، وبعدها باستطاعة لبنان التركيز على النموّ الاقتصادي المستدام.

– تعاون محلّي ودولي: في بعض الحالات، قد تتطلّب الأزمات تعزيز التعاون المحلّي بين القطاعين الخاص والعام ليس فقط في البنية التحتية، بل أيضاً في تقديم الرعايتين الاجتماعية والصحّية وغيرهما، من خلال Private Public Partnership, PPP. وأيضاً لا بدّ من تعزيز التعاون الدولي والتعاون الإقليمي لتقديم الدعم المالي والفنّي وتبادل الخبرات في التعامل مع الأزمة. حتى في الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي كان التركيز على الدعم المتوقّع من الدول الصديقة المانحة.

إقرأ أيضاً: هذه السياسة في لبنان… الإبادة الاقتصادية

في زمن الأزمات، تتغيّر الاعتبارات التي يجب أخذها في الاعتبار عند إعداد الموازنة العامة لتلبية الاحتياجات العاجلة وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. ذكرنا بعض الاعتبارات الرئيسية التي يتوجّب على وزارة المالية أن تراعيها عند إعداد الموازنة العامة، ومن المهمّ أن تكون هذه العملية شفّافة ومستنيرة لضمان تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدولة.

في الختام أفضل القول أنّ السياسة في لبنان تحوّلت إلى طاقة سلبية مدمّرة، كما هو الحال في سوريا والعراق واليمن وإيران، وعكس ما نشهده من طاقة إيجابية في توظيف السياسة في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر. لذلك الممرّ الإلزامي لإنقاذ لبنان يكون إمّا في تغيير السياسة أو في استبدال السياسيين.

 

* باحث في الشؤون الاقتصادية والمصرفية.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…