اتّخذ مبدأ العودة منذ بداية النكبة صفة القداسة. وقد استقرّ في الروح والعقل الفلسطينيَّين كما لو أنّه أحد الجينات في تكوينه. فما من بيت إلا ووُجدت فيه كلمة عودة تحت صورة لقرية هُجّر أهلها منها. إنها حكاية الهجرة الفلسطينية.
ما من مدينة فلسطينية إلا وفيها مئات اللافتات التي رُسمت كلمة العودة عليها، سواء كانت لمدرسة أو شارع أو بقالة أو صالون حلاقة أو نادٍ رياضي… إلخ.
لم تخلُ التهاني المتبادلة في الأعياد والمناسبات منها، فما زالت جملة “عيدنا يوم عودتنا” تُكتب على البطاقات وتتداولها الألسن على الرغم من مرور قرن على النكبة والتهجير والحرمان من الوطن.
ستظلّ كلمة عودة مستقرّة في الوعي، ومتداولة على الألسن مهما عبثت الأقدار في الواقع وأظهرت أنّ العودة المنشودة تبتعد.
هجرة الفلسطيني المتعدّدة
على مدى الأعوام الكثيرة والطويلة التي انقضت، مُني الفلسطينيون بهجرات عديدة. وإذا كانت هجرة عام 1948 هي هجرة الفلسطينيّ الأولى، فقد تلتها هجرة ثانية أنتجتها حرب حزيران في عام 1967، حين اضطرّ كثير من الذين هُجّروا قبل 19 سنة إلى الهجرة من الضفّة الغربية إلى الضفة الشرقية، ليجد الفلسطيني نفسه يحلم بعودتين: الأصليّة إلى الوطن الأوّل، والثانية إلى المخيّم الأوّل!
في زمن الثورة تواترت هجرة الفلسطينيّ هجرات وهجرات من الضفّة الشرقية بعد أيلول 1970، إلى سوريا. وقد راود المهاجرين حنينٌ إلى ما تركوه وراءهم في الأردن. وما تركوه لم يكن مجرّد مخيّمات بل وطن ثانٍ يستحقّ أن يستقرّ الحنين إليه في النفوس.
من سوريا حيث المحطّة الثالثة لكثيرين من المهجّرين أو المهاجرين، ذهب القوم إلى لبنان، ليتلاقوا مع من سبقوهم إليه في عام 1948. وكثيرون ممّن هاجروا إلى لبنان تركوا وراءهم أسرهم في المحافظات السورية. وهو ما أدخل إلى روحهم حنيناً إلى العودة إلى سوريا. كانوا يعودون بالالتحاق بموكب عرفات الذي كان يضمّ عشرات ممّن يرغبون بالعودة إلى أسرهم لقضاء إجازة.
في زمن الثورة تواترت هجرة الفلسطينيّ هجرات وهجرات من الضفّة الشرقية بعد أيلول 1970، إلى سوريا
كان عرفات يعرف، والسلطات السورية تعرف وتتغاضى، وما إن يروي العائد إلى سوريا ظمأه إلى أهله، حتى ينتظر عودة عرفات ليلتحق بموكبه ويعود إلى موقع عمله في لبنان.
من لبنان إلى تونس
ثمّ جاءت الهجرة الأوسع من لبنان إلى العديد من المنافي. وحين خُيّرَ كلّ مهجّر بين الوجهات التي يرغب بالذهاب إليها، طلب العدد الأكبر العودة إلى سوريا. ولماذا سوريا؟ لأنّها الأقرب إلى الأردن. ولماذا الأردن؟ لأنّه الأقرب إلى الضفّة. ولماذا الضفّة؟ لأنّها الأقرب إلى الوطن الأصليّ.
عاد المهجّرون من لبنان إلى سوريا، وهذه المرّة على شاحنات محروسة بطائرات الأطلسي وتعهّداته، ومن لم يعد إلى سوريا ذهب إلى العديد من العواصم البعيدة ينتظر عودة ما ..
المكان الذي كان الأبعد جغرافيّاً والأقرب إلى القلب عاطفيّاً هو “تونس”. كانت بمنزلة حاصل جمع القدس وعمّان ودمشق وبيروت وبغداد والقاهرة. ففي وعائها الأخضر تجمّع كلّ من يراوده الحنين إلى أكثر من عودة. ومن هناك ولّدت محطة أوسلو عدّة “عودات”.. قليلون منهم عادوا إلى الناصرة وسخنين وباقة والضفة الغربية، وغيرها من مدن وقرى الوطن الأصليّ، لكن هذه المرّة بإجازات وجوازات سفر إسرائيلية مع حقّ الترشّح والتصويت في الكنيست. ومن لم يستطع العودة إلى هناك عاد إلى الضفة وغزة والقدس. في الضفّة وغزة، حصلوا على بطاقات أوسلو الخضراء المعنونة بجملة السلطة الفلسطينية المكتوبة بالعربية والعبرية، وفي القدس نالوا بطاقات رمادية لا أثر للّغة العربية فيها. وإذا ما رغب أحد بالتنقّل بين غزة والضفة أو بين الضفة والأردن أو من غزة إلى مصر، فلا مناصّ من أن يقف في طابور للحصول على تصريح إسرائيلي.
آخر الهجرات
آخر محطات هجرة الفلسطينيّ نعيشها هذه الأيام: هجرة من شمال غزة إلى الوادي، ومن الوادي إلى الجنوب، ومن الجنوب إلى الجنوب، ومن جنوب الجنوب إلى أيّ مكان فراغ يحتمل أن تبنى فيه أكثر من مئتي ألف خيمة لتؤوي مليون آدميّ.
عاد المهجّرون من لبنان إلى سوريا، وهذه المرّة على شاحنات محروسة بطائرات الأطلسي وتعهّداته، ومن لم يعد إلى سوريا ذهب إلى العديد من العواصم البعيدة
من يصدّق أنّه حتى على هذا يجري تفاوض صعب. وهذه المرّة ليست الهجرة إلى يافا وحيفا ولا إلى بيت داراس، وإنّما إلى شمال غزة، حيث يحتفظ اللاجئون بمفاتيح بيوتهم التي حين يعودون إليها لن يجدوها.
إقرأ أيضاً: حكاية الحكومات في فلسطين… والرئيس
هذا الزمن الفلسطيني… هجرات كثيرة، وعودات كثيرة أيضاً. وكلّما زاد العذاب وطالت المعاناة تظلّ العودة، التي تعمّقت في القلب والروح منذ عام 1948 واتّخذت صفة “الجينات” الذي يكوّن الجسد. هي حلم كلّ فلسطيني ذاق طعم هجرة أو عدّة هجرات وفُرضت عليه عودة أو عدّة عودات باستثناء تلك العودة الأولى. غير أنّ الفلسطيني، وهذا صار طبعاً وثقافةً، لن ييأس من أن يحقّق الحلم. لهذا ما زال يقول على الرغم من عقود من الزمن….. عيدنا يوم عودتنا.