جهود “منتدى أنطاليا للدبلوماسية” الذي انعقد في مطلع شهر آذار الحالي هو خطوة حوار ولقاء دولي انفتاحي مهمّ. لكن لا يمكن فصلها كثيراً عن لعبة التوازنات الإقليمية والدولية القائمة.
إيجابية ما جرى في “منتدى أنطاليا للدبلوماسية” هي الحوار وسط كلّ هذه الأزمات والحروب والمشاكل. لكنّ غياب اللاعب الغربي المؤثّر عن الجلسات يقطع الطريق باكراً على مؤشّرات اليوم التالي باتجاه التغيير وولادة قناعات جديدة. رسائل مهمّة توجَّه من القاعات، لكنّ التطبيق والالتزام يعرقلهما انعدام التمثيل الغربي الوازن. فلماذا يتهرّب أو يتجنّب الوجود في أنطاليا التركية؟
يعود تاريخ تفعيل الحوار الدبلوماسي بين الدول إلى قرون طويلة مضت. كان من المفترض أن تشكّل حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى وتأسيس عصبة الأمم الخطوة الأهمّ باتجاه التعاون الدولي. وذلك لمنع الحروب والكوارث عبر المفاوضات بعيداً عن لغة التصعيد والتهديد واستخدام القوّة.
فشلت الجهود المبذولة سريعاً مع اندلاع الحرب العالمية الثانية. لكنّها تحوّلت إلى بارقة أمل مع ولادة منظمة الأمم المتحدة التي سرعان ما أُخمدت هي الأخرى. 8 عقود لم تقدّم الكثير باتجاه بناء المنظومة الدولية العادلة والضامنة لحقوق الدول والمجتمعات والأفراد على الرغم من أكثر من مبادرة ومنتدى ومنصّة.
المبالغة في منتدى أنطاليا للدبلوماسية
لن تكون هناك مبالغة بتوصيف “منتدى أنطاليا للدبلوماسية”. الذي عُقد هذا العام بنسخته الثالثة. بأنّه بين أبرز القمم الدولية التي تُعقد خارج مبنى الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. وزير الخارجية التركي هاكان فيدان يقول إنّ المنتدى تحوّل إلى ماركة عالمية في مجال العمل الدبلوماسي. فما هي الأسباب والإنجازات والخدمات التي يقدّمها هذا التجمّع لتركيا وللمجتمع الدولي؟ وما الذي يقود الرئيس التركي رجب طيب إردوغان. وهو يتحدّث عن الحدث. إلى القول إنّ مدينة أنطاليا الواقعة جنوبي البلاد أصبحت إحدى النجوم الساطعة في الدبلوماسية العالمية؟
جهود “المنتدى” الذي انعقد في مطلع شهر آذار الحالي هو خطوة حوار ولقاء دولي انفتاحي مهمّ
الإجابة سهلة عندما يشارك في منتدى أنطاليا للدبلوماسية بنسخته الثالثة أكثر من 20 رئيس دولة وحكومة. إلى جانب 90 وزيراً، بينهم 60 وزير خارجية، من أكثر من 100 دولة. كما يشارك ممثّلون عن نحو 80 منظمة دولية. إلى جانب قرابة 4 آلاف شخص. في المنتدى الذي يحتضن عشرات الجلسات لتبادل الآراء والمواقف والخبرات تجاه المشكلات العالمية والتعبير عن تصوّرات ووجهات نظر متعدّدة.
جهود وزير الخارجية التركي الأسبق مولود شاووش أوغلو في التأسيس للمنتدى وإطلاق فعّالياته قبل 3 أعوام لا يمكن تجاهلها. خصوصية المنتدى ليست في عدد الدول والشخصيات المشاركة. بل في محاور النقاش وطرق إدارة الحوار وجمع هذا الحشد من الرسميين ومنظمات المجتمع المدني تحت سقف واحد.
وصف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف منتدى أنطاليا للدبلوماسية بأنّه أسلوب جديد في العمل الدبلوماسي. شهادة لافروف قد تكون عرضة للشكّ. فقوات بلاده غزت القرم الأوكراني وتحتلّ جزءاً من الأراضي هناك منذ 3 أعوام. لكنّ ما قاله وزير خارجية المجر بيتر سيارتو من أنّه لم يعد علينا أن نتجوّل في عواصم العالم. فهناك مساحة واسعة في أنطاليا للقيام بذلك. يلخّص أهمية وقيمة ما يجري.
تعكس أرقام المشاركة ومستوى التمثيل في أعمال “منتدى أنطاليا للدبلوماسية” تبنّيه كمنصة دولية تتيح فرص الحوار والتواصل بين العواصم والقيادات والشخصيات الأكاديمية والعلمية المؤثّرة في العالم. أنت لا تتنقّل بين الدول، وقياداتها لا تحضر إلى عندك أيضاً، لكنّك تلتقيها تحت منصّة مشتركة توفّر لك الوقت والجهد والمال.
إفلاس النظام العالمي
بين رسائل منتدى أنطاليا للدبلوماسية لهذا العام: إفلاس النظام العالمي في التعامل مع الكثير من الأزمات المحلية والإقليمية والدولية. الحاجة إلى تغيير جذري في البنى التحتية وهيكلية وطريقة عمل المنظمة الأممية. وتحديداً في تركيبة مجلس الأمن الدولي. ويذكّر إردوغان دائماً بأنّ العالم هو أكبر من 5 دول تتمتّع باستخدام حقّ النقض، وبضرورة تفعيل عمل ودور الجمعية العامة للأمم المتحدة ومخاطبة إسرائيل بالطريقة التي تفهمها.
وصف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف منتدى أنطاليا بأنّه أسلوب جديد في العمل الدبلوماسي. شهادة لافروف قد تكون عرضة للشكّ
الغياب الإيراني والإسرائيلي عن المنتدى مهمّ، لكنّ ضعف مستوى التمثيل الغربي مهمّ أيضاً. لافروف المتحدّث الثالث بعد فيدان وإردوغان. الرئيس المجري الضيف البارز المشارك من أوروبا. أميركا ممثّلة بسفيرها في أنقرة. كلّها مسائل لافتة طبعاً. فلماذا لا تشارك الدول الغربية على مستوى رفيع في أعمال المنتدى؟
هل السبب أنّ بعض القيادات والعواصم هناك لا تريد أن تمنح تركيا هذا الدعم الدولي باتجاه خطوات تعزّز موقعها ودورها ونفوذها؟ أم هي ترى في دافوس ومؤتمر ميونخ للأمن البديل الأوفر حظّاً الممكن تبنّيه ودعمه في الساحة الدولية التي تعطي الغرب ما يريد؟ أم هي منزعجة من المشاركة الإفريقية الواسعة وحضور قيادات الدول اللاتينية المكثّف والوجود الروسي الرفيع المستوى. ولا تريد أن تكون أمام هؤلاء في منصّة واحدة قد تتحوّل إلى محاكمة للغرب وسياساته الإقليمية؟
منتدى أنطاليا للدبلوماسية آليّة عالمية جديدة تمنح الدول والحكومات والمنظمات ومؤسّسات المجتمع المدني فرص التعبير عن نفسها مختصرة الوقت والجهد. وقد عُقد هذا العام بالتزامن مع ذروة التصعيد الإسرائيلي ضدّ سكان قطاع غزة. ووسط حالة عدم اليقين التي يعيشها النظام الدولي بسبب مواصلة القوات الروسية لعملياتها العسكرية في القرم. حيث خلّفت حتى الآن الكثير من التداعيات الأمنيّة والسياسية والاقتصادية الإقليمية والعالمية. فهل ما يزعج البعض في الغرب هو إفساح المجال أمام دول العالم الثالث وقيادات القارّة السمراء وبلدان أميركا اللاتينية للحضور بهذه الكثافة والوجود أمام منصّة تسهّل لهم عرض مشاكلهم ومطالبهم والبحث عن فرص تعاون جديدة؟
الدبلوماسية المبتكرة
لم يكن الكثيرون في تركيا يتوقّعون أن يحظى منتدى أنطاليا للدبلوماسية في عامه الثالث بهذه الشهرة والمشاركة الواسعة بمثل هذه السرعة. فمن الانطلاق تحت شعار “الدبلوماسية المبتكرة: مرحلة ومواقف جديدة”، في حزيران عام 2021. إلى المنتدى الثالث تحت عنوان “إبراز الدبلوماسية في أوقات الأزمات” في آذار 2024. حيث نوقش الكثير من القضايا والأزمات العالمية. بما في ذلك تغيّر المناخ والهجرة والحروب التجارية والذكاء الصناعي وأمن الطاقة وأزمة الغذاء وحقوق الإنسان.
بين رسائل منتدى أنطاليا للدبلوماسية لهذا العام: إفلاس النظام العالمي في التعامل مع الكثير من الأزمات المحلية والإقليمية والدولية
منتدى أنطاليا الدبلوماسي وفّر دون شكّ بيئة فكرية ليس للدبلوماسية التركية فحسب، بل أيضاً للدبلوماسية الإقليمية والعالمية. من حقّ الغرب أن يحمي مصالحه وأن يدافع عن نفوذه. لكنّه عندما تسود حالة التخبّط والفوضى الإقليمية على حساب دول المنطقة وشعوبها. فإنّ أيّ دعوة إلى نموذج جديد يمكن أن يساعدنا على مواجهة ما ينتظرنا، ستكون لها بالتأكيد قيمتها المؤثّرة، سواء أحضر الغرب أم لم يحضر.
إقرأ أيضاً: هل تحظى المقاتلة التركيّة “قاآن” بشعبيّة “بيرقدار”؟
قناعة الكثيرين في تركيا هي أنّه حتى لو تغيّب الغرب أو شارك على مستوى ضعيف. فإنّ منتدى أنطاليا للدبلوماسية نجح في فرض نفسه كماركة عالمية ورمز من رموز التجديد في العمل الدبلوماسي التركي. وكان انطلق بمشاركة العشرات من القيادات السياسية والدبلوماسية والشخصيات العلمية والأكاديمية في 54 جلسة حوار. وقد تطرّقت هذه الجلسات إلى الكثير من الملفّات والقضايا، بينها السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي.
لمتابعة الكاتب على X: