موازنة عامّة لتحقيق الاستقرار: تهذيب الأداء وليس الإصلاح!

مدة القراءة 6 د

يكمن الفشل في إنتاج موازنة عامّة تلبّي حاجة الاقتصاد اليوم هو في أداء الطبقة السياسية الحاكمة وليس في أرقام الإيرادات والنفقات. أو سعر صرف الدولار الذي يتوجّب على وزارة المالية اعتماده. كما تروّج هذه الطبقة.

يعلم الجميع من خبراء ومتابعين  أنّ هذه السلطة هي ذاتها التي تحكم منذ سنوات عديدة. من الخطأ جداً أن تكون فصول الموازنة العامة لأيّ سنة بمعزل عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي والنقدي والمالي القائم في البلاد. يعاني لبنان اليوم مجموعة من الأزمات المتشابكة والمترابطة التي أصبحت تطال كلّ مواطن بشكل مباشر أو غير مباشر. المطلوب من الدولة إنقاذ الوطن وأخذه إلى برّ الأمان حتى نتمكّن من إنعاشه لكي يتعافى ويصبح جاهزاً للنموّ المستدام. مسألة قد تطول لعدّة سنوات.

يفتقر لبنان اليوم إلى المقوّمات التي تجعله غير قادر على تحسين الناتج القومي، غير قادر على تحمّل عبء إعادة هيكلة الدولة أو القطاع المصرفي. لهذا يجب التنبّه إلى أنّ الكلام عن النموّ الاقتصادي أو إعادة الهيكلة هو كلام للاستهلاك الإعلامي ولتسجيل إنجازات ومكاسب سياسية وهمية.

أين الخطة الإصلاحية؟

على الرغم من مرور أكثر من أربع سنوات على اندلاع الأزمة، ما زالت هناك حاجة إلى خطّة اصلاحية من الدولة تُتَرجم وتتظهّر في موازنة عامّة. تهدف إلى إنقاذ لبنان كلّه وأخذه إلى برّ الأمان. ليس صدفة سقوط أيّ مشروع كانت قد فُصّلت موادّه على قياس قطاع معيّن من قطاعات الوطن الاقتصادية (القطاع المصرفي)، أو مجموعة من المواطنين (المودعين). موازنة عامّة لإطلاق عجلة الإنقاذ تتضمّن في فصولها خطوات ممكنة وواضحة المعالم والأهداف.

ما هي مكوّنات موازنة الإنقاذ والإنعاش العامّة؟

يكمن الفشل في إنتاج موازنة عامّة تلبّي حاجة الاقتصاد اليوم هو في أداء الطبقة السياسية الحاكمة وليس في أرقام الإيرادات والنفقات

– الفصل الأول: مشروع يوفّر حزام أمان اجتماعي للمواطنين الأكثر فقراً. وهذا يتطلّب تأمين سيولة كافية لتمكين هؤلاء من تمويل فاتورة الاستهلاك، والخدمات الصحّية والتعليمية. تفاقم حالة الفقر تكون نتيجة فقدان العمل. وعدم توافر فرص العمل بسبب الانكماش الحادّ في النشاط الاقتصادي. وإقفال المؤسّسات وتآكل القدرة الشرائية للرواتب والأجور بسبب الارتفاع الحادّ في الأسعار. وبسبب عدم اهتمام الدولة وعدم إسراعها في إنقاذ البلاد وصلت آفة الفقر إلى كلّ فئات المجتمع اللبناني من شباب وكبار السنّ، وإلى العاملين منهم والعاطلين عن العمل والمتقاعدين.

– الفصل الثاني: دعم مؤسّسات القطاع الخاصّ الأساسية لتمكينها من الصمود والاستمرار في تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين: المؤسسات الأساسية كالمخابز ومحلّات الموادّ الغذائية، والمستوصفات والصيدليات والمستشفيات وغيرها. وهذه الإجراءات الاحترازية تهدف إلى استدامة توفّر الحدّ الأدنى من الموادّ الأساسية لضمان استمرارية الحياة بكرامة. هناك مؤسّسات دولية الهدف من تأسيسها هو الوقوف إلى جانب الدول المنكوبة لمدّ يد العون: مؤسّسة الصحّة العالمية، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، ومصارف التنمية وغيرها.

موازنة عامّة

– الفصل الثالث: تركيز الدولة على الاستمرار في تقديم الخدمات الأساسية وتمويلها. أيّ موازنة عامّة يجب أن تبدأ بالخدمات الأساسية التي يتوجّب على الدولة تأمينها للمواطنين. ويزداد ذلك أهمية في زمن الأزمات. يجب أن لا يكون هناك جدل في كيفية تأمين التمويل لهذه الخدمات. إذا تعذّر التمويل من الإيرادات، فلن يكون كارثياً اللجوء إلى الاستدانة إذا توافرت، أو طباعة العملة إذا تعذّرت. جزء من هذه الخدمات الأساسية، كالتعليم والصحة وغيرهما، يكون أحد المكوّنات الأساسية لحزام الأمان الاجتماعي.

– الفصل الرابع: وضع ضوابط على استيراد الكماليّات، وليس وقفه، حتى تصل البلاد إلى مرحلة التعافي الإقتصادي. من الممكن وضع آليّة تنظّم استيراد الكماليّات، وتجعله ممكناً لمن يريد من المستهلكين وغبّ الطلب.

من المستحيل إنتاج موازنة من دون عجز في ظلّ هذا الانحدار الاقتصادي الذي يعيشه لبنان منذ أكثر من أربع سنوات

اليوم نحن بحاجة إلى إنقاذ، ويأتي من بعده الإنعاش، ثمّ نصل إلى التعافي والنموّ. ولن تكون هناك سياسات اقتصادية ناجحة وداعمة لجهود الإنقاذ إن لم تأخذ بعين الاعتبار أنّ لبنان ليس بحاجة إلى كلّ ما يشتهيه المستوردون ويرغبون في وضعه في صالات العرض لتحريك شهيّة المستهلك.

– الفصل الخامس: إلزام المؤسّسات باعتماد وسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي لصرف رواتب وأجور موظّفيها، وغيرها من مصاريف تشغيلية. على الرغم من المعاناة التي واجهها سوق القطع الأجنبي من المضاربة الشرسة، والاتّهامات التي وُجّهت إلى لبنان بأنّه أصبح جنّة لتبييض الأموال وتمويل الإرهاب. لم تتوقّف الدولة عند إقفال المؤسّسات لحسابات موظّفيها، والتوقّف عن صرف رواتبهم عبر إيداع مباشر في حساباتهم المصرفية. ساعد ذلك في نموّ اقتصاد الظلّ. وأعطى مساحة إضافية للمضاربين لإحداث اضطرابات بسعر الصرف في السوق الموازي. وتآكلت قدرة الدولة في تحصيل إيراداتها. ونتيجة كلّ ذلك أصبحت الأوراق النقدية هي الخيار الأول عند المستهلك. عندما تتّخذ الدولة تدابير لعكس هذا الاتجاه الشرّير، يصبح من السهل على المواطن تمويل فواتير الاستهلاك بالشيكات وبطاقات الدفع والائتمان (bank money). وذلك عوضاً عمّا يحصل اليوم، وهو الإفراط في اللجوء إلى الأوراق النقدية.

لا موازنة من دون عجز

من المستحيل إنتاج موازنة من دون عجز في ظلّ هذا الانحدار الاقتصادي الذي يعيشه لبنان منذ أكثر من أربع سنوات. من الخطأ المطالبة بإطلاق عجلة الإصلاح إذا كانت تداعياته مؤلمة على المجتمع اللبناني. لا أحد يطالب الدولة بصرف أيّ موظّف من الخدمة اليوم، ولكن بما أنّ هناك رواتب تُدْفَع، يجب أن تكون هناك خدمات تُقَدَّم إلى المواطن. الإصلاح ممكن إذا توافرت الإرادة والإمكانيات فقط. وهذا هو الغائب الأكبر اليوم!

على لبنان التصدّي للتحدّيات الاقتصادية والسياسية بشكل جادّ وفعّال. إعداد موازنة عامّة تلبّي احتياجات الاقتصاد والمجتمع هو خطوة أساسية

على لبنان التصدّي للتحدّيات الاقتصادية والسياسية بشكل جادّ وفعّال. إعداد موازنة عامّة تلبّي احتياجات الاقتصاد والمجتمع هو خطوة أساسية في هذا السياق. يفترض بالسلطات أن تتبنّى إصلاحات هيكلية وسياسات ماليّة متّسقة للحدّ من الأزمات المتكرّرة وللنهوض بالاقتصاد نحو الاستقرار والتنمية المستدامة. بالتعاون مع المجتمع الدولي وبتفعيل عمل مؤسّسات القطاع الخاص المحلية، يمكن للبنان تحقيق النجاح في مواجهة التحدّيات الراهنة والبناء نحو مستقبل أفضل لجميع مواطنيه.

* خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد.

 

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…