“الفاتنات” جريمة بحقّ الطفولة على “نتفليكس”.. والخسائر 9 مليار $

مدة القراءة 6 د


يحفل تاريخ السينما بالكثير من الأفلام الصادمة والمؤذية والمزعجة والغريبة وحتى المريضة، ولكن ربما لم يسبق أن خرج فيلم يمكن النظر إليه بوصفه جريمة مكتملة الأركان والمعالم.

يسجّل لمخرجة فيلم “الفاتنات”، الفرنسية المتحدّرة من أصول سنغالية ميمونة دوكوريه أنها نجحت في افتتاح سابقة في هذا الصدد، وأنها صنعت عن قصد أو من غير قصد فيلماً يتجاوز كلّ الحدود، بالمعنى السلبي للكلمة، بعرضه للأطفال بشكل مفعم بالإثارة الجنسية.

إقرأ أيضاً: فيلم “ست الدنيا”: بيروت التي لا نريد أن نتركها

منذ أن بدأ عرض الفيلم على منصة “نتفليكس”، لم تتوقف حملات الإدانة والرفض وسط غياب شبه تام للآراء المؤيدة أو التي تدعو الى التمهّل وإعادة النظر في الفيلم ومنحه أسبابا تخفيفية، كما كان الحال مع عدة أفلام أثارت جدلاً واسعاً وانقساماً في الآراء حولها.

جرى تلقّي الفيلم بشكل سلبي كامل سياسياً وثقافياً وجماهيرياً، وتسبّب منذ أن انطلقت حملات الرفض في أواخر شهر آب المنصرم بخسارة منصة العرض الأشهر لأكثر من 9 مليارات دولار من قيمتها السوقية، وانطلاق حملات توقيع تطالب بوقف الاشتراك فيها على موقع chang.org، وصل عددها إلى 000650 توقيع.

السيناتور تود كروز بدوره طلب من وزارة العدل الأميركية إجراء تحقيق حول خرق المنصة للقوانين الفدرالية التي تمنع إنتاج وتوزيع المواد الإباحية للأطفال، كما أنّ المركز الأميركي لمناهضة الاستغلال الجنسي وجّه انتقادات حادة للشركة

يضاف إلى ذلك موجة تغريدات غاضبة على موقع “تويتر”، كما أنّ متابعي موقع النقد السينمائي الأشهر في العالم ” الطماطم الفاسدة” قد صوّتوا بنسبة 90% ضدّ الفيلم.

لم تقف الأمور عند هذا الحدّ، بل وصل الضجيج الذي تسبّب به الفيلم إلى أروقة الكونغرس الأميركي، ما دفع بالسيناتور الأميركي جوش هاولي إلى توجيه رسالة إلى الرئيس التنفيذي لمنصة “نتفليكس”، ريد هاستينغز، يسأله عن الأسباب التي دفعت المنصة إلى بثّ فيلم يصوّر أطفالاً دُرّبوا على الانخراط في أفعال جنسية، مؤكداً أنّ الفيلم يستغلّ الأطفال ويعرّضهم للخطر.

السيناتور تود كروز بدوره طلب من وزارة العدل الأميركية إجراء تحقيق حول خرق المنصة للقوانين الفدرالية التي تمنع إنتاج وتوزيع المواد الإباحية للأطفال، كما أنّ المركز الأميركي لمناهضة الاستغلال الجنسي وجّه انتقادات حادة للشركة.

مع هذه الحملة التي اتخذت طابعاً عالمياً، حرص ناطق باسم “نتفليكس” على محاولة منح الفيلم شرعية ما انطلاقاً من واقع حصوله على جوائز عديدة، منها جائزة مهرجان “صندانس”. واعتبر أنّه يعرض للضغوط التي تواجهه الفتيات الصغيرات على وسائل التواصل الاجتماعي وفي المجتمعات بشكل عام، ودعا أيّ مهتمّ بهذه القضايا إلى مشاهدة الفيلم.

مخرجة الفيلم أدلت بدلوها مدافعة عن فكرتها قائلة إنّ الفيلم يتطرّق لمحاولة طفلة التعرّف على نفسها، والتوصّل إلى معرفة جوهرها الحقيقي. فهي حائرة بين عالم أمها، وقيمها التقليدية، وبين مجموعة فتيات صغيرات وخلفياتهنّ المتحرّرة، كما كشفت عن تلقيها سلسلة من التهديدات بالقتل.

يعرض الفيلم قصة إيمي، طفلة إفريقية مسلمة، وصعوبات الاندماج التي تعاني منها في المجتمع الفرنسي، وآثار الصراع الذي تجد نفسها غارقة فيه بين عالم التقاليد الأسرية وبين طبيعة المجتمع الجديد، التي تشكّل النقيض التام لموروثاتها الثقافية، وما تفرضه من أنماط سلوكية.

هل كان التركيز على التعبير الجسدي الإباحي للطفلات ضرورياً لعرض هذه الإشكالية وتوضيحها في لقطات استعراضية مفصّلة ومطوّلة، تحتاج إلى الكثير من التدريب المسبق والاستعداد حتى تخرج بمثل هذه الدرجة من الإتقان والاحترافية؟

الاحتجاج الذي تقترحه المخرجة يكون عبر انضمامها لفرقة رقص إباحي مؤلفة من فتيات في مثل سنها، وحرصها على الاشتراك في مسابقة رقص، ومحاولة الفوز فيها مهما كان الثمن وعبر خرق كلّ الحدود.

ترسم المخرجة صورة الأسرة على أنها مؤلفة من أب غائب على الدوام، ويتحضّر للزواج بامرأة ثانية، وسط رضى وتسليم مزيّف من زوجته الأولى والدة إيمي، والعمة الكبيرة في السنّ، والتي تمنح دور حارسة التقاليد.

تستعمل المخرجة هذه التحديدات المبسّطة والمزيّفة كحجة تبرّر السياق الذي دفع بالطفلة إلى توكيد ذاتها بمثل ذلك الأسلوب المتطرّف. ولكن هل كان التركيز على التعبير الجسدي الإباحي للطفلات ضرورياً لعرض هذه الإشكالية وتوضيحها في لقطات استعراضية مفصّلة ومطوّلة، تحتاج إلى الكثير من التدريب المسبق والاستعداد حتى تخرج بمثل هذه الدرجة من الإتقان والاحترافية؟

ما الذي تقوله تلك المشاهد؟ وهل يمكنها أن تأخذ أيّ مشاهد طبيعي إلى ما هو أبعد منها، أم أنها ستفرض عليه إقامة جبرية في حدود ما تنشره من فكرة مرفوضة ومدانة ومقزّزة؟

صدمة تلقّي هذه اللقطات تمنع الفيلم من أن يكون فيلماً أو أن يحمل أيّ قضية. وفي أخفّ حكم يمكن إصداره عليه، يمكن القول إنه يتسم بالغباء المطلق في عرض الموضوع، فكأنّ شخصاً يعترض على القتل بالقتل أو على الاغتصاب بالاغتصاب.

تلعب “نتفليكس” لعبة الحضور الدائم الذي لا مجال فيه للتفريق بين القيم. فالسلبية والإيجابية بنظرها وجهان لعملة واحدة، وتالياً، فإنّ الجمهور عملياً لا رأي له. يعترض، ويشتم، ويطالب، ولكنه لا يتوقف عن المشاهدة

يجمّل الفيلم استغلال الأطفال، ويضعه في لوحات مبهرة ومتقنة، ما يهدّد بتحويله إلى قيمة أيقونية تنتج أجيالاً من المقلّدين المجانين. بل إنه يعرضه لامعاً وواثقاً من نفسه وحافلاً بالبهجة ومشاعر الانتصار.

تلك هي الخلطة المدمّرة التي يبحث عنها جيل ما قبل المراهقة الآن، ويعاني منها وسط عالم الإنترنت والإبهار التقني الحافل بكلّ أنواع المخاطر.

ما لم تنتبه إليه المخرجة أنّ فكرة تضحية الطفلات بأجسادهنّ في فضاء الاستهلاك الإباحي، ليست أمراً يمكن العودة منه كما حاولت أن تقول في ختام فيلمها بل إنه مماثل للموت، لأن الدخول في عالم الصورة يعني الدخول في عالم من التكرار والتضخم المستمر، بشكل لا يمكن الفرار منه، ولا تفاديه، ولا تجاوزه، ولا النجاة من آثاره الدائمة.

أجبرت الممثلات الطفلات على الدخول في فعل انتحار علني. الرسالة التي بثّها الفيلم من خلالهنّ لا يمكن أن تتيح الفرصة لأي تسامح أو تأويل، وكذلك الأمر في ما يخصّ إصرار الشبكة على بثّ الفيلم عالمياً، وفي منطقة الشرق الأوسط مترجماً إلى العربية، وعدم استجابتها للنداءات المطالبه بسحبه.

تلعب “نتفليكس” لعبة الحضور الدائم الذي لا مجال فيه للتفريق بين القيم. فالسلبية والإيجابية بنظرها وجهان لعملة واحدة، وتالياً، فإنّ الجمهور عملياً لا رأي له. يعترض، ويشتم، ويطالب، ولكنه لا يتوقف عن المشاهدة.

ما تراهن عليه منصة العرض العالمية هو أنّ حملات المقاطعة ووقف الاشتراكات ليست جدّية وحاسمة بقدر الفضول القاتل وغير المبرّر، الذي يدفع بالمشاهدين إلى التعامل مع مادة فيلم “الفاتنات”، مع معرفتهم بطبيعتها، بوصفها تلصّصاً محرّماً على عالم ممنوع.

ربما تكون “نتفليكس” وأمثالها من منصات العرض قد نجحت في الوصول إلى ما نسمّيه “الجريمة الكاملة”.

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…