انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي مع وفاة محمد مخلوف خال بشار الأسد، الشخصية الاقتصادية التي سيطرت على مفاصل الاقتصاد السوري منذ نصف قرن، ورقة نعي غريبة تحمل الكثير من الدلالات والرسائل التي تشرح طبيعة الصراع بين جناحي المنظومة الحاكمة في سوريا، وتفسّره، وتكشف أبعاده.
مخلوف كان قد أدار عملية نهب الاقتصاد السوري لصالح المنظومة الأسدية منذ حوالي نصف قرن. ومنذ مدّة عهد بجزء كبير من هذه المهمة إلى نجله رامي الذي برزت مشاكل مالية حادة بينه وبين الرئيس الحالي للنظام السوري بشار الأسد منذ العام الماضي، وأدّت إلى مصادرة القسم الأكبر من أمواله وشركاته.
إقرأ أيضاً: سوريا: الحرب “الثرية” والسلْم المفلس
مع هذا الخلاف الحاد، جاءت مناسبة وفاة محمد مخلوف كمناسبة لتثبيت ملامح هذا الصراع وتكريسها. فالنعي الذي شاع وانتشر، وعلى الرغم من التشكيك الذي طال صحته، إلا أنه يبقى مع ذلك تعبيراً صادقاً عن طبيعة الصراع الأسدي – المخلوفي وتوثيقاً أميناً لخلفيته.
يتصدّر النعي مقطع من آية قرآنية لا تستعمل عادة في مثل هذه المناسبات، وهي الآية الخامسة من سورة الحجّ التي تقول:{إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب}.
بشّار الأسد ليس سوى طارئ ومغتصب للسلطة ولا يمتلك ولو الحدّ الأدنى من الشرعية
يحرص مطلقو النعي على توظيف مفردة البعث في سياق صراع مستمرّ للقول إنّ الزمن الذي صنع نفوذ وحضور آل مخلوف، هو الزمن الأصيل الذي لا يمكن أن يطاله الريب والشكّ، وإنّه يمتلك القدرة على الاستمرار والتجدّد والعودة، ولا يمكن أن يذوي ويموت، ولو صار أبرز رموزه، أي محمد مخلوف المتوفّى حديثاً، تحت التراب.
يتمّ تأويل السياقات التي وردت فيها هذه المفردة لإطلاق رسالة مفادها أنّ وصول بشار الأسد إلى سدّة الرئاسة ليس سوى خروج على الأصول، وأنّه لا يمتلك شرعية التناسل من ذلك الأصل البعثي المديد والتاريخي الذي كان آل مخلوف مشاركين أساسيين في صناعته.
بشّار الأسد ليس سوى طارئ ومغتصب للسلطة ولا يمتلك ولو الحدّ الأدنى من الشرعية.
ما يلي لاحقاً يدعم هذا التحليل. النعي لا يذكر أيّاً من أبناء حافظ الأسد، بل يذكر صلة القرابة معه من خلال أنيسة شقيقة مخلوف التي توفّيت عام 2016، ويصفها بأنّها “سيّدة سوريا الأولى”، في عملية تهدف إلى النيل من ثنائية بشّار وأسماء، وعدم الاعتراف بها وتسفيهها ووضعها في مقارنة خاسرة مع ثنائية “القائد الخالد حافظ الأسد” و”السيّدة الأولى الدائمة أنيسة مخلوف”.
يذكّر النعي رعاة المنظومة الأسدية التاريخيين والحاليين بأنّ آل المخلوف يمثّلون البعثية الصحيحة المستندة إلى شرعية التاريخ وأصالة التأسيس، وبأنّهم الجهة التي تستحقّ الاستثمار فيها وتسليمها إدارة شؤون سوريا المحتلّة وليس بشار الأسد
يضاف إلى ذلك كلّه أنّ تأجيل التشييع إلى الـ18 من شهر أيلول الجاري وتحديد مكانه في قرية بستان الباشا، بما يعنيه ذلك من رفض لإقامة جنازة رسمية ولو رمزية تحت رعاية مؤسسات الدولة السورية التي لا يزال بشار مسيطراً عليها، هو محاولة لإقامة شرعية موازية لها تستمدّ حضورها مما يسعى النعي إلى تكريسه من حقّ تاريخي مرتبط بمرحلة التأسيس وأصالتها وشرعيتها.
وكذلك، فإنّ النظر إلى مخلوف بوصفه فقيداً للأمة ثم الوطن، إنما هو خطاب يحرص على دمج عدة مسارات، فهو أولاً يعيد التذكير بموقع ومكانة حافظ الأسد ودوره في تركيب مفهوم الأمّة بسياقه البعثي المزدوج الوظيفة، الذي سمح بخلق مسخ عجيب من تزاوج مفاهيم العروبة والممانعة، الصمود والتصدّي، مع مهادنة العدو وغضّ النظر عن التنكيل بالشعوب.
ومن ناحية أخرى، يذكّر النعي رعاة المنظومة الأسدية التاريخيين والحاليين بأنّ آل المخلوف يمثّلون البعثية الصحيحة المستندة إلى شرعية التاريخ وأصالة التأسيس، وبأنّهم الجهة التي تستحقّ الاستثمار فيها وتسليمها إدارة شؤون سوريا المحتلّة وليس بشار الأسد.
قالت هذه الورقة في صيغتها المنتشرة كلاماً كثيراً حول عمق النزاع المخلوفي الأسدي حالياً. لكنّ أبرز ما قالته يبقى في أنّها بيّنت بشكل لا يقبل الجدل أنّ الصراع في عمقه ليس سوى صراع على أولوية إدارة شؤون مجزرة مستمرة، واستجرار الشرعية تأسيساً عليها وانطلاقاً منها.
تلعب المخلوفية التي أصيبت بهزّة قوية مؤخراً على وتر الإغراء الاقتصادي بشكل ينطوي على الكثير من الدهاء والقدرة على معرفة طبيعة الجهات الراعية للأسد، وأنّها ليست سوى مافيات لا تُعنى بشيء سوى النهب
آل المخلوف يأخذون على بشار أنّ مجزرته حديثة العهد، ولا يتجاوز عمرها التسع سنوات في حين أنّ تاريخ شراكتهم في المجزرة السورية تأسيسي وتاريخي ويكاد يبلغ الخمسين عاماً. وتالياً، فإنه لا مجال للمقارنة بين أصحاب المجزرة الحديثي الولادة وبين شيوخها المجرّبين الأصيلين، الذين رعوا وأنتجوا وأداروا وموّلوا كل مفاصلها، على امتداد مدّة زمنية تكاد تختصر تاريخ إقامة سوريا تحت نير البعث.
يقول الخطاب المخلوفي لرعاة الأسد الروس والإيرانيين إنهم لا يمكنهم الاعتماد على بشار الأسد لأنّه، وعلى الرغم من حرصه على إثبات عدم تورّعه عن فعل أيّ شيء في سبيل تكريس بقائه على سدّة الحكم تحت ظلالهم، إلا أنّه ببساطة لا يزال قليل الخبرة. براميله المتفجّرة، وغازاته السامة، وأسلحته الكيماوية، ليست سوى ألعاب نارية ضئيلة التأثير أمام ما تقترحه عليهم الرسائل المالية المبطّنة التي جاءت في النعي بصيغة رمزية “خطاب البرّ والتقوى” أو نمت على ضفافها كوصف مخلوف بأنّه “باني اقتصاد سوريا”.
تلعب المخلوفية التي أصيبت بهزّة قوية مؤخراً على وتر الإغراء الاقتصادي بشكل ينطوي على الكثير من الدهاء والقدرة على معرفة طبيعة الجهات الراعية للأسد، وأنّها ليست سوى مافيات لا تُعنى بشيء سوى النهب.
تخاطبهم مباشرة وتقول لهم: نحن رعاة المجزرة الفعليين والتاريخيين، نحن قتلة الاقتصاد الذين كان لهم خبرة تاريخية في تعفيشه، ولا بدّ من منحهم الأولوية في إدارة أمور تعفيش مستقبله. الصراع الأسدي المخلوفي ليس إذن سوى صراع على تعفيش المجزرة.