سارع رئيس الحكومة المكلف مصطفى أديب إلى التماهي مع رئيس الجمهورية ميشال عون والسيد حسن نصر الله وكل الطبقة السياسية في مشروعها الرامي إلى التعاطي مع جريمة تفجير المرفأ وكأنها قد باتت تاريخاً، وأنّ كل الدم الذي ما زال طازجاً وحارّاً على الأرض قد بات مأساة تعلق في رقبة الحدادين الثلاثة الذين تحرص الرواية الرسمية على تحميلهم مسؤولية الجريمة وفق تخريجة تصف التفجير بأنه كانت “غلطة لحّام”.
إقرأ أيضاً: الحزب وافق على إخراج مصطفى أديب من قبّعة “رؤساء الحكومة”
المشروع الذي جاء به أديب ليس سوى خطاب محو إذن. هذا ما يفسّر إخراجه من المجهولية ووضعه السريع والمباشر في دائرة الضوء في صيغة حرص صنّاعها على أن يجعلوا منه نوعاً من ماكرون لبناني موازٍ للرئيس الفرنسي الذي يزور لبنان حالياً، فكانت النتيجة أن خلقوا من أديب نسخة كاريكاتورية لا تستدعي سوى السخرية والرفض.
تقليد ماكرون المستند إلى خلفية امتلاكه للجنسية وزواجه من مواطنة فرنسية في اللباس والحركات والمشية والنظرات والهمسات أدى وظيفة معاكسة
وعلى جري عادة اللبنانيين إذا ما ركنوا إلى المبالغة، فإن كل شخصية تقلد شخصية أخرى تميل إلى أن تعتبر نفسها أصلاً وليس نسخةً. لكنّ منظومة النسخ التي حاولها الرئيس المكلف بدت مفتقدة للعناصر الأولية للتقليد. بدت نوعاً من الكارثة الإخراجية والمشهدية، والأسوأ أنّها كشفت عن خلل عميق في التقدير السياسي يمكن للملاحظ أن يستشفّ من ورائه طبيعة الحكومة المنوي تشكيلها وخطابها وكل مشروعها.
تقليد ماكرون المستند إلى خلفية امتلاكه للجنسية وزواجه من مواطنة فرنسية في اللباس والحركات والمشية والنظرات والهمسات أدى وظيفة معاكسة إذ ان اللحظة التي حظي فيها ماكرون نفسه بالحفاوة والترحيب كانت مرتبطة بما أشاعه حول نيته ترويض الطبقة السياسية ولجمها وليس إعادة إنتاجها وإحياء سلطتها.
يعني ذلك أنّ الرئيس المكلف حرص على أن يقلد ماكرون في لحظة اكتشف اللبنانيون أنّ زيارته لم تكن سوى خداع وبيع للأوهام والأشعار، فكان بذلك كمن يستعير قربة مثقوبة. كلّفه الأمر أن تلتصق صورته الافتتاحية التي كان يريد لها أن تستعير زخم الترحيب بماكرون بصورته وهو يفرّ مطروداً من شوارع الجميزة، بعد لحظات على وصوله إليها وسط صرخات تهتف في وجهه أنّه قاتل. وقد “شلح” الجاكيت، وشمّر عن زنود قميصه الأبيض، واضعاً يديه على بعض المشرّدين، محاولاً الإيحاء بأنّه رجل المرحلة، ورجل الأرض.
الخروج من الجمّيزة مشفوعاً باللعنات والإدانة يعني حالياً الخروج من الشرعية الشعبية، ويعني تالياً أنّ حكومة أديب في حال تم تشكيلها لن تكون سوى الحكومة التي قامت على أنقاض بيروت وعلى جثث ضحايا المرفأ
الأرجح أنّ ماكرون نفسه حالياً لا يمكنه أن يزور الجميزة الآن، فكيف بنسخته الصينية المصنوعة على قياس عجز الطبقة السياسية اللبنانية من الخروج من تحت عباءة الظل الإلهي الحاكم، وحرصها على التناغم مع السلاح وزمنه، وإعادة إنتاج نفسها تحت ظلاله.
الخروج من الجمّيزة مشفوعاً باللعنات والإدانة يعني حالياً الخروج من الشرعية الشعبية، ويعني تالياً أنّ حكومة أديب في حال تم تشكيلها لن تكون سوى الحكومة التي قامت على أنقاض بيروت وعلى جثث ضحايا المرفأ.
من هنا نستنتج أنّ اختيار هذا الرجل في هذه المرحلة والإجماع العام الذي حظي به من جل القوى السياسية الفاعلة والمؤثرة، يعود إلى أنّه الرجل الذي لا يطمح سوى أن يكون ظلاً يعكس حضوره في كلّ لحظة حضور كل المرجعيات التي أخرجته من ظلمات منصب سفير لبنان في برلين، واستدعته على عجل ليكون الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة في لحظة الالتباس الكبير الذي تغرق فيه البلاد.
ميزة الرجل أنّه لا يمتلك مشروعاً ولا هوية ولا وجهاً، ولذا فإنّ دمه السياسي والمعنوي، الذي نعلم سلفاً أنّه معدّ للإهدار، سوف يتفرق بين قبائل المرجعيات، فهو الشخص الذي لا بواكي له لأنّه لا دور له.
إنّه الرجل الالتباس المعدّ لقيادة لحظة التلعثم والتأتأة العامة في البلد عموماً وفي الساحة السنيّة خصوصاً، الذي استفاد من أنّه “الرجل الذي لا صفات له”، كما يقول عنوان رواية روبرت موزيل الشهيرة، ولذا فانّ كلّ طرف محلي أو إقليمي أو دولي يمكنه أن يملأ صفحة الصفات الفارغة كما يحب ويشتهي.
لا راحة تتفوق على راحة الركون إلى الخيال في ظلّ وضع مأزوم كالذي يعيش فيه البلد الآن. مصطفى أديب وليد لحظة التخلّي عن السياسة والركون إلى الخيال. فما من شخصية ظهرت على المسرح السياسي مؤخرا وكانت تمتاز بإمكانية استجابتها لخيال الجميع مثل هذا الرجل.
حركة أمل اعتبرته منها، مؤيدو المستقبل اعتبروه خرج من تحت عباءة سعد الحريري، وعارضوه، وحزب الله يرى فيه شخصية مناسبة، واسمه خرج بالفرنسية من فم ماكرون مباشرة.
إنّه رجل الحفلة الذي افتتح مهرجانه بمشهده مطروداً من الجميزة، فكان ماكروناً بائساً لا يمثل سوى خفة التخريج اللبناني البدائي في لحظة الكارثة التي يريد الجميع من ماكرون إلى عون والحريري ونصر الله تغطيتها بالأشعار والأغاني.
لا يدلّ كلّ هذا اللغو سوى أنّ البلد عشية الاحتفال بمئويته لم يبلغ سنّ الرشد بعد والدليل الذي لا يخطئ على ذلك خفّة أديب التي لا تحتمل في الجميزة.