انحصرت صورة حزب الله الفنية مؤخراً في ما يقدّمه المنشد علي بركات، لدرجة أنه بات يصعب تصوّر تاريخ للنشاط الفني خارج ما قدّمه هذا الرجل على امتداد السنوات الماضية.
بركات حرص في أناشيده أن يكون موثّقاً وحدثياً وميدانياً بحيث لا تخرج البنية العامة لأعماله عن إطار التماهي مع حدث معيّن والبناء عليه والتعبير المباشر عنه. وبذلك، لم يتجاوز كونه نشرة حزبية غير رسمية أو خطاباً سفلياً، يوازي الخطاب العلني للحزب، ويترجمه بلغة تستجيب لمنطق العامة من جماهير الحزب من ناحية، وتعمل على توجيهه من ناحية أخرى.
إقرأ أيضاً: هبوط أناشيد “حزب الله” من “الشعب استيقظ يا عباس” إلى “كلنا حدك يا حسان”!
في الفترة الأخيرة لم يعد للحزب من خطاب سوى ذلك الذي يخاطب العامة مباشرة. كلّ ما صدر عنه في الفترة الأخيرة لا يخرج عن هذا التوجّه، من حديث نصر الله عن تخزين الغضب إلى مشهدية محمد رعد المنسحب من الغداء مع الرئيس الفرنسي ماكرون بسبب وجود قنينة نبيذ، وما بينهما من تصريحات مقتضبة يكرّر خلالها نوابه عدم اكتراثهم بصدور حكم المحكمة الدولية الذي اتهم مباشرة أحد أعضاء الحزب بتنفيذ جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
لم يعلن عن اسم الملحن، ولا أشار إلى أنّها استعارت مفردات القاضي المازح، وكأنّ المقصود هو الإيحاء بأنّ هذا العمل من تأليف وتلحين الجماهير نفسها
انطلاقاً من الحاجة إلى مخاطبة العامة، بدا وكأنّ طريقة بركات تحوّلت إلى تماهٍ مع الأصل، ولم تعد تقيم على هامشه. لكنّ الفكرة أنّ تخصّصه الميداني المباشر والوصفي قد لا يصلح لإدارة المرحلة الجديدة التي تقوم على إطلاق الرسائل المتعدّدة الاتجاهات شدّاً للعصب أو فتحاً لباب التفاوض.
وعليه، فإن زيارة ماكرون، التي اجتهد الحزب في التأكيد على أنها تصبّ في صالحه، تبخّر أثرها مع مناخ زيارة مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شينكر، وتصريحات وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو التصعيدية. إثر ذلك، برزت الحاجة إلى تفعيل الجناح الفني الطربي الموالي له المؤلف من مجموعة مطربين موجودين على الساحة الفنية، من أجل إطلاق رسالة معادية للتوجّه الأميركي، فكان أن خرج إلى النور مقطع غنائي بحنجرة المطرب الممانع معين شريف.
غنّى شريف كلمات تغريدة القاضي محمد المازح في شكر نصر الله الذي كان قد وجّه إليه تحية إثر إصداره قراراً يمنع بموجبه أيّ وسيلة إعلامية محلية أو عالمية، تمارس أعمالها داخل الأراضي اللبنانية، من إجراء أيّ مقابلة أو أخذ أيّ تصريح مع السفيرة الأميركية دوروثي شيا.
حمل المقطع المغنى عنوان قبلاتي وتقول كلماته: “قبلاتي لعمامتكم الطاهرة مكلّلة بألف سلام أيها الحبيب سماحة الأمين العام”. استعمل المطرب اللبناني قدراته الصوتية العريضة لإضفاء جوّ من الفخامة والجلالة على رسالته الموجزة.
لم يعلن عن اسم الملحن، ولا أشار إلى أنّها استعارت مفردات القاضي المازح، وكأنّ المقصود هو الإيحاء بأنّ هذا العمل من تأليف وتلحين الجماهير نفسها، وأنّ هناك ترابطاً قائماً بين رفض المشروع الأميركي وبين حبّ السيّد.
ولعلّ المرحلة الجديدة تتطلّب تعديل خطاب “فدى صرماية السيد”، والركون إلى لغة عاطفية. استعمال مفردات “قبلاتي” و:أيّها الحبيب”، توحي بمحاولة لإقامة توازٍ إلهي طربيّ مع الحالة التي احتلت المشهدية العامة للبلاد بعد لقاء ماكرون بالسيدة فيروز، وصورة السيدة ماجدة الرومي وهي تعانقه.
عكست تلك الصور مشهدية لا يلتقطها وعي نصر الله إلا بوصفها دلالة على اعتراف دولي بلبنان يتناقض تماماً مع وجوده وسلاحه، وخصوصاً بعد أن كسر كلام وزير الخارجية الأميركي حاجز الحديث المحظور عن سلاح الحزب بالتوازي مع كلام للبطرك الماروني بشارة الراعي حول الأمر نفسه.
لم ينجح الحزب الإلهي في خلق نموذج فني شيعي ممانع موازٍ للنموذج الذي خلقه المطربون الذين سيطروا على مشهد البلاد وذاكرتها
صور ماكرون مع السيدة فيروز والسيدة ماجدة الرومي بالتوازي مع مواقف البطريرك بشارة الراعي، بدت وكأنّها هجمة جدّية وشرسة ضدّ زمن سلاحه، وطريقة العيش التي يبشّرنا بها. وذلك على الرغم من كلّ القراءات التي نظرت إلى زيارة ماكرون وكأنها حملت للحزب مجموعة من الانفراجات، وساهمت في تخفيف الحصار عنه وعن السلطة التابعة له.
ربما يكون في مثل هذه القراءات شيء من الصحّة. لكن على الرغم من ذلك، ظهر الحزب متلعثماً، وغير قادر على استثمار هذه المشهدية، وخصوصاً مع وجود مزاج عام يربط بين آثار انفجار المرفأ وصوته بصورة نصرالله وصوته.
وقد يكون هذا الربط الذي يتنامى كلّ يوم، هو ما دفع معظم المحطات التلفزيونية اللبنانية إلى اتخاذ قرار بالامتناع عن بثّ خطابات نصر الله.
لم ينجح الحزب الإلهي في خلق نموذج فني شيعي ممانع موازٍ للنموذج الذي خلقه المطربون الذين سيطروا على مشهد البلاد وذاكرتها. ولم تستطع خزعبلات زياد الرحباني التي حرص خلالها على الإيحاء بأنّ السيدة فيروز تؤيد نصرالله، في إقناعنا بأنّه قد نجح في مصادرتها، وأنّها قد باتت ممثّلة لسلاحه وما ينتجه من خراب.
لو افترضنا أنّ السيدة فيروز تؤيد نصر الله فعلاً، فإن بنية الحزب نفسها لا تحتمل مثل هذا التأييد، ولا تستطيع توظيفه ولا استثماره لأنه ببساطة يستوجب قبل كلّ شيء تدبير شؤون عيش مغاير لحياة الأقبية والأنفاق.
يأتي معين شريف الآن ليحاول افتتاح زمن الطرب الإلهي بصيغة ترتبط بحسن نصر الله مباشرة، وكأنه يؤسّس لنوع غنائي خاص وجديد، يمكن النظر إليه كفاتحة للمؤتمر التأسيسي لطرب الخنادق والأنفاق والانفجارات.