إذا تشكّلت جمهورية عربية واحدة موحّدة من طنجا إلى عدن، يجب أن يبقى لبنان الجمهورية العربية الثانية. جمهوريةٌ لا شرقية ولا غربية. لا غالبة ولا مغلوبة. لا ساحة للصراعات ولا قاعدة للاستهدافات. محايدة في الخلاف وحاضرة في الاجتماع. تحترم صيغتنا وتعدّديّتنا وتنوّعنا وميثاقنا وحياتنا المشتركة.
تحت هذه الثوابت الغائرة في الصدق والاستقامة والوطنية الخالصة، يتحرّك السنّة الأقوياء دون أن يرفّ لهم جفن أو ترتعد لهم قامة. هم أهل الأرض وملحها. وهم أحرص مَنْ حرص على ديمومتها واستقرارها وعلوّ شأنها. لا يهدّدنّهم أحد بمؤتمر تأسيسي أو بعقد اجتماعي جديد. وإن كان هناك مَن يظنّ من شذّاذ الآفاق أنّه قادر على عزلهم، استناداً إلى راهنيّة سياسية أو كبوة مرحليّة، فهو واهمٌ ومحدودٌ ومشتبه. لا أحد يستطيع أن يُخرجهم من المعادلة الوطنية، مهما جرّب أو حاول، ومَن يظنّ أنّه قادر على التأسيس فوق جثّتهم السياسية، فليقرأ التاريخ، حتى لا يصير لزاماً عليه أن يكرّره.
يريد ميشال عون وصهره وفريقه اللصيق أن يدمّر اتفاق الطائف، وأن يشطبه من الحياة السياسية ومن يوميّات اللبنانيين، وأن يدفع الجميع مرغمين نحو إنتاج عقد اجتماعي جديد في نهاية المطاف. وهو إذ يجد في هذا الهدف ضالّته لدغدغة مشاعر مَن تبقّى مِن مناصريه
قبل الوصول إلى هذه الخلاصة في حلقتنا الأخيرة، استندنا في الحلقتيْن الماضيتين إلى سلسلة من الخطوات الضرورية لاستعادة التوازن السنّي في المعادلة الداخلية، والتي لا بدّ أن تبدأ فوراً باعتذار نجيب ميقاتي عن تشكيل حكومة، وتتبعها مجموعة من الإجراءات الحاسمة والحازمة، إن لجهة الصدمة الوطنية التي سيؤسّس لها العصيان السياسي والطائفي عن المشاركة في تشكيل أيّة حكومة في عهد ميشال عون، أو لجهة الاستعادة السريعة للحضن العربي من بوابة الرياض، وصولاً إلى إعادة رصف الصفوف عبر العودة إلى الشارع والناس، هناك حيث الأزمات الكبرى، سياسيةً واجتماعيةً ومعيشية، ناهيك عن أزمة الثقة التي فعلت فعلها، وسحبت أهل الدولة من قضيّتهم وبوصلتهم وعناوينهم الكبرى، إلى خانة القلق والارتباك واللايقين.
حين يشتدّ عودهم، ويقفزون بقوّة إلى واجهة المشهد، وفي جعبتهم قيادات جديدة، وخطاب سياسي ووطني تقدّمي وتاريخي، ومظلّة سعودية وعربية، وحيوية بل رشاقة استثنائية، يستحيلون سدّاً هائلاً لا يُمكن تجاوزه. وهم إذا يرتكزون على ثوابتهم الوطنية التي لا تقبل المسّ، يفتحون الباب لغيرهم أن يعرض ما في جعبته، وأن يفكّر مرّة ومرّتين ومرّات قبل أن ينساق خلف شعبويّات لن تنفجر إلا في وجهه.
يريد ميشال عون وصهره وفريقه اللصيق أن يدمّر اتفاق الطائف، وأن يشطبه من الحياة السياسية ومن يوميّات اللبنانيين، وأن يدفع الجميع مرغمين نحو إنتاج عقد اجتماعي جديد في نهاية المطاف. وهو إذ يجد في هذا الهدف ضالّته لدغدغة مشاعر مَن تبقّى مِن مناصريه، يدرك تمام الإدراك أنّ المؤتمر التأسيسي سيفتح أبواب الجحيم بوجه المسيحيين أنفسهم، وأنّ الرهان العبثيّ على تخلخل البنية السنّيّة لن يتيح له الذهاب بعيداً في قطف المكتسبات بالتكافل والتضامن مع الشيعيّة السياسية، بل مع حزب الله تحديداً، بقدر ما سيؤسّس هذا الخيار لمزيد من الارتصاف والتجاذب، ليصل في نهاية المطاف إلى ضرب كلّ شيء، انطلاقاً من الصيغة والميثاق، وصولاً حتى المناصفة، وهذه خطيئة جزيلة وسقطة قاتلة.
هذا الدفع الجنوني نحو العبث بالأساسات الكيانيّة، يقف خلفه حزب الله تحت الطاولة وفي الكواليس، وهو إذ يسعى عن سابق تصوّر وتصميم إلى هدم النظام القائم لبناء بديل يناسبه، لن يكون معنيّاً بالطرف الذي سيدفع الثمن، على الرغم من رهانه العميق على ضعف الساحة السنّية وارتباكها وجاهزيّتها لخسارة مواقعها، وهو ساهم على نحو مكثّف وممنهج في ضربها واستهدافها، مرّة عبر شطب واغتيال خيرة قادتها وعقولها، ومرّات عبر شيطنتها والعبث بساحاتها وتخريب نسيجها وزرع كلّ مسبّبات الفتنة والتذابح والاقتتال.
على هامش هذه الرغبة، بل في متنها، باغتنا سليم جريصاتي أمس بطلب إحضار رئيس الحكومة المستقيل بالقوّة إلى التحقيق، موقّعاً باسم القاضي البيطار. وقد ورد في نصّ المذكّرة ما حرفيّته: “كل مأمور قوّة مسلّحة مكلّف بإحضار الشخص الوارد اسمه في الورقة إلى دائرة المحقّق العدلي، ويمكن الاستعانة بقوّة مسلحة موجودة في أقرب مكان لإنفاذ الورقة النافذة في جميع الأراضي اللبنانية، وعلى الضابط العدلي إحضار الموقوف بمهلة أقصاها 24 ساعة”.
منذ فترة وجيزة، رفض المجلس الاعلى للدفاع، الذي ينتحل عنوة صفة وصلاحيات السلطة التنفيذية، إعطاء الإذن بملاحقة مدير عام أمن الدولة، فلماذا لم يقطع له القاضي مذكرة جلب؟ أم أنّ ثمة من يدفع باتجاه الاستفزاز المقصود لشريحة بعينها، بهدف تنفيذ مآربه السياسية الدنيئة؟
وبغضّ النظر عن هذه الإهانة المتعمّدة، وعن التجاوز الموصوف للدستور، ولكلّ القوانين المرعيّة الإجراء، والتي لا يختلف اثنان على وضوحها وتفسيرها، ثمّة سؤال لا بدّ من الإجابة عليه: ألا يُشكّل هذا الإجراء استهدافاً سياسياً فاضحاً وممنهجاً؟ وهل يُعقل أن تُسطّر مذكّرة إحضار بحقّ رئيس حكومة لا يزال يمارس مهامّ تصريف الأعمال، فيما يتجاهل المحقّق العدلي كليّاً تصريح رئيس الجمهورية العلني بمعرفته بقضية نترات الأمونيوم قبل انفجارها؟ وهل يُعقل أن يُجلب رئيس الحكومة مخفوراً، فيما تسرح القيادات الأمنيّة والعسكرية من دون حسيب أو رقيب، وهي المسؤولة أوّلاً وأخيراً عن أمن المرفأ، بل عن الانفجار برمّته؟
منذ فترة وجيزة، رفض المجلس الأعلى للدفاع، الذي ينتحل عنوةً صفة وصلاحيات السلطة التنفيذية، إعطاء الإذن بملاحقة المدير العام لأمن الدولة، فلماذا لم يقطع له القاضي مذكّرة جلب؟ أم أنّ ثمّة مَن يدفع باتجاه الاستفزاز المقصود لشريحة بعينها، بهدف تنفيذ مآربه السياسية الدنيئة؟ وهو ما حصل أيضاً مع اللواء عباس إبراهيم.
لكنّ هذا كلّه سيرتطم بواقع السُنّة الجديد، متى سلكوا الدرب نحو استعادة وعيهم وحضورهم وقدرتهم، لأنّهم يمتلكون المقوّمات الكبيرة التي تحول دون خسارتهم أو استضعافهم، وهذا ما يتجلّى بكل وضوح، إن في ديموغرافية انتشارهم، أو في صلابة ساحاتهم ومناطقهم. ويكفي هنا أن نُلقي نظرة سريعة على الخريطة الجغرافية، لندرك تماماً أن لا قدرة على تجاوزهم أو إخراجهم من المعادلة، وإن حدث هذا نتيجة عوامل آنيّة أو مرحليّة، فإنّه قطعاً لن يدوم طويلاً.
حضور سُنّي جارف في شمال لبنان، من طرابلس إلى عكار وصولاً إلى وادي خالد. حضور مماثل في البقاعين الغربي والأوسط، ولا سيّما على طريق الشام الاستراتيجي، وعلى طريق بعلبك-الهرمل الذي لا يقلّ أهمّيةً واستراتيجيّة. كذلك حضور وازن وكبير في العاصمة بيروت، على الرغم من كلّ ما فعله ويفعله حزب الله لتغيير هذه المعادلة. ثمّ يأتيك الحضور الصلب في قلب البيئات الأخرى، من صيدا بوّابة الجنوب وعاصمته، إلى إقليم الخروب، وخلدة، وعرسال. كلّها مناطق استعصت على حزب الله، واستعصت أيضاً على النظام السوري، حتى في أوج قوّته وبطشه، ولو كان لنا أن نُذكّر القارئ، لاستحضرنا تجربة عرسال التي تعيش في خضمّ بحر شيعي، وعلى تماس مباشر بالحدود مع سوريا، وفي لحظة تمدّد داعش وخطف العسكريين من جرودها، تعرّضت لأكبر حملة في تاريخها، من المضايقات والاستهدافات الأمنيّة والعسكرية، إلى تشويه صورتها إعلامياً وسياسياً واجتماعياً، إلى التحريض عليها على نحو غير مسبوق، لكنّ ذلك كلّه لم يُغيّر شيئاً في المعادلة، حيث صمد أهلها، وواجهوا، وأظهروا صلابة استثنائية لا تقلّ أبداً عن الشهرة التي تتمتّع بها صخورهم الذائعة الصيت.
هذا غيضٌ من فيضٍ قد نستكمله بأمثلة كثيرة. من مجدل عنجر الملاصقة لسوريا والممسكة تماماً بالحدود الرسمية، إلى سعدنايل المزروعة في قلب الطريق الحيوي الذي يربط بعلبك بضاحية بيروت الجنوبية، إلى خلدة التي تُمسك بعنق الأوتوستراد الذي يربط الضاحية بالجنوب، ذاك المثلث الذي طالما شهد اشتباكات واستهدافات ومحاولات هائلة لتطويعه وسحقه، لكنّها باءت كلّها بالفشل، وقد تسنّى للجميع أن يشاهد بأمّ عينه أخيراً كيف استطاعت مجموعات من أهالي خلدة أن يُلحقوا ضرراً بالغاً وموصوفاً بحزب الله وصورته، وهم الذين يُفترض بهم أن يجزعوا من قدراته وبطشه ووهج سلاحه، بل ومن سيطرته شبه الكاملة على البحر البشري الذي يقطنون في خاصرته.
السُنّة ليسوا ضلعاً قاصرة. ليسوا جماعة لا حول لها ولا قوّة. هم أكثر الطوائف قدرةً على التوثّب. وأكثر الجماعات قدرةً على الإمساك بالجغرافيا والديموغرافيا. ما ينقصهم هو إخراجهم من عنق الزجاجة التي أوصلهم إليها سعد الحريري ونجيب ميقاتي قبله، ثمّ الانتقال نحو نفضة شاملة، تبدأ بالخروج السريع من فاقة الحريرية المكبّلة، إلى أفق سياسي ووطني جديد، توازياً مع جهود استثنائية لإعادة وصل ما انقطع مع المملكة العربية السعودية، وإعادة إنتاج قيادات وكوادر ونخب جديدة، على وقع خطاب سياسي ووطني صلب وثابت وشامل.
إقرأ أيضاً: خارطة استعادة التوازن (2): العودة إلى الشارع
حينذاك، وحينذاك فقط، ليتفضّل إلى الطاولة مَن يريد أن يقلبها، وسيجد السُنّة الأقوياء يجلسون في انتظاره، ليخبروه بحرص ورويّة وابتسامة، أنّهم أهل عقل وأهل ميثاق وأهل دولة، يدهم ممدودة ومفتوحة ورحبة، وقلوبهم عابقة بالطمأنينة والسكينة واليقين، يريدون لأصحاب الرؤوس الحامية أن يهدأوا وأن يعودوا إلى صوابهم، وإذا كان ثمّة مَن يُصرّ على قلب الطاولة، فإنّه لن يقلبها إلا على نفسه.