كان من المفترض أن نبدأ هذه الحلقة بخلاصة من الحلقة الماضية، لكنّ الساحر الكبير سمير عطاالله قدّم لنا زبدة الكلام في مقالته هذا الصباح في الشرق الأوسط، وهي زبدة تختصر متن القضيّة وهوامشها، بكلّ هدوء وحكمة ورويّة، حيث يقول ما حرفيّته: “إنّها مسؤولية الرؤساء المكلّفين، الذين يقبلون على أنفسهم، ويرتضون لِمَن يمثّلون ولموقع الكرسي الذي يشغلونه، الذهاب إلى القصر الجمهوري أكثر من 3 مرّات للبحث في موضوعات لا قيمة لها. ليست مرونة أن يُستدعى الرئيس المكلّف 20 مرّة إلى لدن رئيس الجمهورية، خلافاً لكلّ دستور وميثاق، بل هي قبول بإهانة شخصيّة ووطنيّة. ولا شيء يساوي الكرامة، فرديةً أو جماعيّة. وإذا لم يستطع رئيسا الجمهورية والحكومة الاتّفاق في اجتماعين أو 3 اجتماعات “عمرها ما كانت”. ثمّة وطن أغلى كثيراً من اللعب السقيم بحياة الشعوب”.
الجميع، بمن فيهم أكثرنا صبراً وعقلانيّة، بات ينظر إلى أداء نادي الرؤساء بعين الريبة والاستغراب والتعجّب، إذ كيف يصحّ أن يذهبوا مذهبهم هذا، فيما كلّ المؤشّرات والوقائع باتت تؤكّد عبثيّة هذا المسلك وانعكاساته الكارثية عليهم وعلى مَن يمثّلون. وقد دعوناهم غير مرّة إلى الاعتكاف السياسي، ودعونا الرئيس المكلّف إلى الاعتذار الفوري، كمقدّمة ضرورية لإنتاج صدمة تتيح استعادة التوازن، لأنّ أيّ شخص، مهما جرّب أو حاول، فلن يُغيّر قيد أنملة في الواقع السياسي القائم بعد سلسلة طويلة من التراكمات المدمّرة، والحلّ يبدأ من خطوة مباغتة تقلب الطاولة بوجه الجميع.
في خضمّ هذا الزلزال، وقع الشرخ الكبير بين سعد الحريري والمملكة العربية السعودية، خطايا شخصية للحريري لا علاقة للسُنّة به من قريب أو بعيد، لكنّ هذه القطيعة ساهمت على نحو كبير في التشويش على علاقتهم الحيوية والاستراتيجية والمميّزة مع عمقهم العربي ومع حاضنتهم التاريخية
هذا ما يتعلّق بنادي رؤساء الحكومات والرئيس المكلّف، لكن ماذا عن الوجدان السنّيّ العريض؟ ماذا عن الناس؟ كيف السبيل إلى استعادتهم، وأيّ واقع هو ذاك الذي يعيشون في ظلاله منذ دخولهم الملحميّ في صلب العذابات الوطنية؟
ينام السُنّة منذ عقد ونيّف في العراء. يبحثون بلا أمل عن كتف يسندون إليه رؤوسهم المُتعَبة. أرهقهم البحث المستدام عن دولة لا يجدون إليها سبيلاً، وعن إنصاف مستحقّ لانعطافتهم التاريخية نحو أولويّة لبنان وحرّيته وسيادته واستقلاله. نالت المماحكات المضنية والتسويات العبثيّة والسياسات الآثمة من عزيمتهم أو تكاد، بعدما نال القتلة من يقينهم. فهُمْ، ومنذ شُطِب رفيق الحريري بطُنّيْن من المتفجّرات، يلهثون خلف سكينة هربت وحلّ مكانها الذعر والقهر والقلق، وكانوا كلّما شعروا بطمأنينة تلوح في الأفق، بادرهم القاتل بمذبحة جديدة راح فيها مَن سيبقى رحيلهم غصّة في قلوبهم، وعطشاً في حناجرهم، وهاجساً لا يُدمَل إلا بجبل من الإيمان والصبر والاحتساب.
ثُكِل السُنّة في لبنان مرّتين. مرّة في مواجهة مشروع توسّعي عابر للجغرافيا والخرائط، امتد من بيروت إلى دمشق، وصولاً إلى صنعاء وبغداد، وقد أراد لهم أن يتحوّلوا إلى لاجئين في دويلتهم أو هاربين منها، لكنّهم واظبوا، على الرغم من عمق مصابهم وهزيمتهم، على الرفض والنضال والثبات، بل وصارت المواجهة المفتوحة مع هذا المحور وأدواته جزءاً أساسياً وعنواناً مركزياً وأولوية مطلقة في مشروعهم السياسي والوطني.
ثمّ ثُكِلوا بعبثيّة مرجعيّتهم السياسية التي سلكت طريقاً ملتوياً على وقع الكبوات والفشل والارتجال، فدخلوا جميعاً مرحلة التشتّت والضياع، وتحوّلت عزيمتهم وإصرارهم إلى وجه من وجوه اللاثقة واللايقين، واستحال مشروعهم الوطني الكبير إلى شمّاعة تُعلَّق عليها الطموحات الشخصية التي أهملت المصلحة العليا لطائفة بقضّها وقضيضها، مقابل الحصول على بعض فتات السلطة والمواقع، التي ما لبثت أن أحرقت هذه الشخصيّات بعدما أحرقوها.
ثمّ، وفي خضمّ هذا الزلزال، وقع الشرخ الكبير بين سعد الحريري والمملكة العربية السعودية، خطايا شخصية للحريري لا علاقة للسُنّة به من قريب أو بعيد، لكنّ هذه القطيعة ساهمت على نحو كبير في التشويش على علاقتهم الحيوية والاستراتيجية والمميّزة مع عمقهم العربي ومع حاضنتهم التاريخية، وقد أسهبنا في شرح هذه الجزئيّة ضمن الحلقة الأولى، لكنّ إعادة استحضارها ضروري ومفيد، ولا سيّما لجهة تكوين صورة شاملة عن حيثيّات الفاقة وأسبابها وتداعياتها، ناهيك عن بلورة صورة الحلول المرجوّة والنتائج المشتهاة.
كلّ ما تقدّم لا يعدو كونه جانباً أساسياً ومحورياً من جوانب الأزمة الهائلة التي عصفت بسُنّة لبنان، ولا تزال تعصف بهم حتى الآن، فقد أضيف إليها أزمة اقتصادية واجتماعية تفوقها هولاً أصابت اللبنانيين جميعهم في مقتلهم، وصارت حدّاً فاصلاً بين لبنان الذي انتهى، وبين لبنان الذي سيولد من جديد. وبعيداً من ماهيّة وهويّة الوليد المنتظر، لا بدّ أن نسلك الطريق من أوّله، متوثّبين في الأساس إلى إعادة وصل ما انقطع عبر الوفد الوازن المقترح لزيارة الرياض، مستنداً إلى قرار كبير بالاعتكاف السياسي والحرم الطائفي، تليه عودةٌ فوريّة إلى الشارع، إلى الناس، إلى الجمهور العريض الذي يبحث عن كتف يسند رأسه إليه، وذلك بطبيعة الحال خارج أيّ قدرة لسعد الحريري على التأثير، وبعيداً من الهيكلية التنظيمية لتيّاره السياسي.
بعيداً من ماهيّة وهويّة الوليد المنتظر، لا بدّ أن نسلك الطريق من أوّله، متوثّبين في الأساس إلى إعادة وصل ما انقطع عبر الوفد الوازن المقترح لزيارة الرياض، مستنداً إلى قرار كبير بالاعتكاف السياسي والحرم الطائفي
ولأنّ الأزمة المعيشية والاقتصادية الرهيبة فرضت نفسها كأولويّة مطلقة، فإنّ الحراك لا بدّ أن يبدأ تماماً من هذه النقطة، حيث يتمّ العمل سريعاً على تأسيس منظومة أهلية لا تشوبها شائبة في مختلف المناطق السُنّيّة، تنحصر مهمّتها في تقديم يد العون، وفي إغاثة المحتاجين، عبر تأمين الحدّ الأدنى من مقوّمات العيش الكريم، ولا سيّما على صعيد الاستشفاء وتوفير الأدوية المفقودة، بالإضافة إلى التعليم والتدفئة والأساسيّات اللازمة للتماسك الاجتماعي، وتقديم المساعدات العينية.
بعد الشروع في تنفيذ هذه الخطّة بدقّة متناهية ومن دون أيّ أخطاء تُذكَر، يتمّ الإعداد للخطوة الموازية، التي تقوم على إعادة إنتاج خطاب سياسي ووطني جديد، يستند أوّلاً إلى رفض الاحتلال الإيراني، وإلى إعادة تصويب البوصلة تجاه مختلف الملفّات المفتوحة، ولا سيّما مسألة التماهي مع الرغبة الجامحة بتغيير الواقع السياسي في البلاد، والتي عبّر عنها السُنّة بكل وضوح عقب مشاركتهم الكبيرة والملحوظة في ثورة 17 تشرين، وهذا لا بدّ أن يبدأ بتأسيس دولة عادلة وعصرية قائمة على احترام الإنسان وصون كرامته، ومواجهة كلّ أشكال الفساد والزبائنيّة والإطباق على الدستور والقانون والمؤسسات والسلطات.
بعد وضع اللمسات الأخيرة على هاتين الخطوتين، تبدأ مرحلة الإعداد الجدّيّ لإعادة إقامة التحالفات السياسية مع الجهات التي تتطلّع نحو الهدف نفسه، بالتوازي مع الجهوزيّة القصوى لخوض الانتخابات النيابية في كلّ المناطق، انطلاقاً من ترشيح شخصيات تتمتّع بالحدّ الأقصى من الصدقيّة والشرعية والسيرة الحسنة، وصولاً إلى إطلاق برنامج انتخابي وسياسي واضح وشامل، بالإضافة إلى بلورة رؤية مستقبلية لمقاربة كلّ الملفّات الأساسية والحيوية، وفي مقدّمها الملف الاقتصادي والمعيشي.
إقرأ أيضاً: خارطة استعادة التوازن (1): إعتذار ميقاتي أوّلاً
ستؤسّس هذه الخطوات عمليّاً لسلسلة استعادات فائقة الأهمية والضرورة. أولاها استعادة التوازن في اللعبة الداخلية، انطلاقاً من اعتذار نجيب ميقاتي عن تشكيل حكومته، وما يؤسّس له هذا الاعتذار من صدمة مدوّية عنوانها الاعتكاف السياسي والحرم الطائفي، وستليها استعادة الحضن العربي ودور المملكة العربية السعودية الحيوي في لبنان، ثمّ استعادة السُنّة من حالة اللايقين إلى مشروع سياسي ووطني متكامل، على أن تشكّل الانتخابات النيابية المقبلة الامتحان الأوّل الذي لا بد من تجاوزه للجلوس بقوّة إلى طاولة النظام.
مَن يستطيع وقتذاك أن يشطب السُنّة من المعادلة الداخلية، وقد صاروا جبهة قوية ووازنة، ويحضرون بفعل الأمر الواقع في كلّ مفاصل الجغرافيا والديموغرافيا اللبنانية؟ ماذا لو ذهبوا إلى طاولة مفاوضات تغيير النظام أو تعديله؟ ماذا سيكون موقفهم؟ وهل من نظام أو دولة أو عقد اجتماعي جديد بلا السُنّة في لبنان؟ للحديث صلة في الحلقة الأخيرة يوم الجمعة المقبل.