رحم الله جدّي، الذي كان دوماً يقول لي في مجالسنا الخاصة قبل وفاته: “والله بتلبق لك المخترة يا طليل” (هذا اسمي، طلال، قبل زواجي من أم زهير وإنجابنا العكروت زهير). أمّا أنا فكنت فاهم الموضوع بشكل خاطىء، وكنت أقضيها كزدرة وشمّ هوا وبسط وانشراح ومخترة من حيّ إلى حيّ في المنتيكا (المنطقة).
الصرّافين أصحاب سطوة ونفوذ لا يجرؤ أحد على إغضابهم. هم على علاقات طيّبة مع الجميع فالصيادلة أحبابهم وأصحاب محطات الوقود أصدقاؤهم، والفرّانون أزلامهم
مثل كلّ الناس “الدقّة القديمة”، كان جدّي يظنّ أنّ مهنة المختار ذات شأن بين الناس و”برستيج”، وهي قادرة على تأمين مستقبل مُمتهِنها، لكنّ جدّي وافته المنيّة خلال الحرب، تحديداً خلال ما يُسمّى “حرب التحرير” يوم سقطت قذيفة مصدرها منطقة اليرزة، التي كانت تحت سيطرة جيش الجنرال ميشال عون، في الدار حيث كان يرتشف قهوته الصباحية ويستمع إلى نشرة الأخبار بواسطة راديو الترانزستور.
وافته المنيّة ولم يرَ ماذا حلّ بالمخاتير بعد أزمة الدولار، وكيف أمست إفادة السكن أو إخراج القيد ببضعة آلاف لا تساوي نصف دولار.
تُوفّي جدّي ولم يتعرّف إلى الصرّافين بعد الأزمة. فلو كان على قيد الحياة إلى اليوم لكان تمنّى لحفيده الوحيد وقرّة عينه أن يكون صرّافاً ذا قدر وقيمة في شارع الحمرا أو في ساحة الملعب البلدي. ربّما كان تخلّى عن حبّه وتعلّقه بالمخاتير بعدما شاهد بأمّ العين حجم السطوة والنفوذ والمجد الذي بات الصرّاف قادراً على التمتّع به.
قبل أيام طلبت منّي أم زهير أن أقصد الصيدلاني في حيّنا لتتأكّد من كون الدواء، الذي تتناوله لمرض السكّري، مقطوعاً أو لا، فارتأيت أن أقصد الصرّاف قبل الصيدلاني، لأصرف 20 دولاراً من أصل المئة التي يرسلها إليّ “المُرضي” زهير من السعودية (الله يوفّقه ويفتحها بوجهه ميات وخمسينات)، حتى أتمكّن من دفع ثمن الدواء إن وجدته.
دخلت محلّ الصرافة، فكان يقف الصرّاف يتجاذب أطراف الحديث مع رجلٍ، ويتمتمان كلمات غير مفهومة، لكنّني ضربت أذن بعيدة المدى، فسمعتهما يتحادثان عن دواء مقطوع أيضاً (يا للصدفة)، إذ قال له الرجل الغريب: “لا تحمل همّ… يومين وبكون الدوا عندك”.
إذا انقطعت من الدواء إقصد الصراف، فمن المؤكّد أنّه يعرف صيدلانياً “أنتيماً”، وإن انقطعت من البنزين، خابره، فلعلّه يأتيك بغالون سعته 10 ليترات
ما إن التقطت راداراتي هذه الجملة حتى دخلت على الخطّ بلا “إحم” ولا “دستور”، قائلاً: “دخيلك يا عمّي… دبرنا بهيدا الدوا، وشو بدّك أنا بأمرك”، فنظر إليه الصرّاف لبرهة، ثمّ أومأ برأسه معطياً إيّاه الضوء الأخضر للنظر في طلب المساعدة، فقال لي الرجل: “هذا رقمي، أرسل لي اسم الدواء على واتساب، وإن شاء الله خير”.
وهكذا فعلت بعد دقائق، لأُفاجأ في اليوم التالي باتصال من الصرّاف نفسه يقول لي: “عمّي أبو زهير… مرّ صوبي لتأخذ دواء أم زهير”.
هذه هي قدرة الصرّافين في الأزمات الاقتصادية والنقدية. هم أصحاب سطوة ونفوذ لا يجرؤ أحد على إغضابهم. هم على علاقات طيّبة مع الجميع، فالصيادلة أحبابهم وأصحاب محطات الوقود أصدقاؤهم، والفرّانون أزلامهم، والكلّ لا يريد إلاّ إرضاءهم!… ومَن منّا ليس بحاجة إلى الصرّاف اليوم؟
إقرأ أيضاً: 3 أسباب وراء انخفاض الدولار
إذا انقطعت من الدواء إقصد الصراف، فمن المؤكّد أنّه يعرف صيدلانياً “أنتيماً”، وإن انقطعت من البنزين، خابره، فلعلّه يأتيك بغالون سعته 10 ليترات، ممتلئ بتلك المادة الخضراء، بسعر جيّد… والله وليّ التدبير!