إسرائيل: من القدس إلى غزّة

مدة القراءة 6 د

الاقتحام الإسرائيلي للمسجد الأقصى، وانتهاك حرمة أحد أكثر المواقع قداسةً لدى المسلمين، ثمّ العدوان العسكري على غزّة التي تحاصرها القوات الإسرائيلية برّاً وبحراً وجوّاً، كلّ ذلك كان لا بدّ أن يؤدّي إلى ردّ فعل. لكنّه اقتصر أوّلاً على الاحتجاجات الشعبية الفلسطينية، في القدس، ثمّ في الضفة الغربية، وبعد ذلك كانت المقاومة المسلّحة في غزّة. فكان ردّ الفعل الإسرائيلي مزيداً من الانتهاكات للمقدّسات، ومزيداً من العدوان العسكري.

هذا التطوّر على أرض الواقع الفلسطيني يعني أمراً أساسيّاً واحداً، وهو أنّ الانفتاح التطبيعي العربي على إسرائيل لم يغيّر من ثوابتها السياسية، ولم يعدّل من ممارساتها العدوانيّة، سواء تجاه المقدّسات الدينية (الإسلامية والمسيحية) أو تجاه الشعب الفلسطيني (في غزّة والضفّة الغربية).

قامت نظرية سياسية تقول إنّ المقاطعة العربية لإسرائيل لم تنفع، وإنّ الحرب على إسرائيل (حزيران 1967 ورمضان 1973) لم تغيّر من مواقفها، بل زادتها عجرفةً وتوسّعاً وتطرّفاً. ولم يبدّل عقد معاهدات سلام معها (مصر وكامب ديفيد، الأردن ووادي عربة، السلطة الفلسطينية وأوسلو) من ثوابتها، لأنّ تلك المعاهدات الصلحيّة استجابت لحاجات السلطات السياسية وليس لمصالح الشعوب. فبقيت الأبواب مسدودة في وجه أيّ صيغة من صيغ التفاهم الذي يحقّق ولو حدّاً أدنى من العدالة، ويسترجع ولو حدّاً أدنى من الحقوق، ويؤدّي إلى التفاهم، أو على الأقلّ يمكن أن يفتح ثغرة في الجدار المسدود الذي يحول دون تعايش عربيّ مع الأمر الواقع الإسرائيلي.

جاءت مبادرة التطبيع العربية لتقفز من فوق كلّ هذه السوابق، لتقدّم طبق حسن النيّة علّه يفتح الشهيّة الإسرائيلية لتسوية تحقِّق ولو الحدّ الأدنى من العدالة للشعب الفلسطيني. لكنّ التطوّرات الأخيرة أثبتت أنّ ذلك كان مجرّد أضغاث أحلام. فإسرائيل أدمنت على استخدام القوّة. وتكوّنت لديها ثقافة مخاطبة العالم العربي بلغة القوّة المعزّزة بالدعم الأميركي وبالصمت الأوروبي وبالعجز العربي.

هذا التطوّر على أرض الواقع الفلسطيني يعني أمراً أساسيّاً واحداً، وهو أنّ الانفتاح التطبيعي العربي على إسرائيل لم يغيّر من ثوابتها السياسية، ولم يعدّل من ممارساتها العدوانيّة، سواء تجاه المقدّسات الدينية (الإسلامية والمسيحية) أو تجاه الشعب الفلسطيني (في غزّة والضفّة الغربية)

ذهبت إسرائيل إلى حدّ إعلان أنّها دولة يهودية، أي أنّها دولة لليهود، ليس باللغة فقط، ولكن أيضاً بالهويّة الدينية في الدرجة الأولى. فالمواطن الإسرائيلي الذي يحقّ له التمتّع بالحقوق الكاملة هو يهوديّ حتماً وحصراً.

وبذلك أسقطت إسرائيل الديموقراطية من نظامها، واعتمدت عملياً نظام الأبارتايد (الفصل العنصري) على طريقة جنوب إفريقيا في السابق. ولم تقف إسرائيل عند إعلان الشعار، بل بادرت إلى تطبيقه. وكانت القدس الشرقية (وحيّ الشيخ جرّاح تحديداً) المسرح التطبيقي الأول. فكانت مصادرة بيوت الفلسطينيين، وكانت عمليات إجبار مالكيها على هدمها بأيديهم أو على نفقتهم إمعاناً من إسرائيل في الإكراه والإذلال. وكان التهجير الممنهج عبر خطوات متلاحقة ومتكاملة نحو هدف التهويد الكامل والشامل.

لم يتحمّل كثير من المثقفين اليهود داخل إسرائيل وخارجها التبعات المعنوية لهذه السياسة “الجنوب إفريقية”. فأعلن بعضهم التخلّي عن جنسيّته الإسرائيلية احتجاجاً. وعاد كثير منهم مرّة أخرى إلى الدول التي هاجروا منها بعدما كانوا مخدَّرين بحلم الدولة المثالية التي يتطلّعون إليها، فإذا بها تثبت أنّها لا تختلف عن غيرها من الدول المعسكَرة، ولا تؤمن إلا بلغة القوّة لغةً وحيدةً للتفاوض.

يعكس هذا الواقع أمراً على درجة كبيرة من الخطورة، وهو أنّ فشل إسرائيل أخلاقياً ومعنوياً، حتّى في نظر يهود من داخل إسرائيل وخارجها، يدفعها نحو المزيد من التطرّف لتغطية هذا الفشل. وهي تبدو كمَنْ يحفر وهو ساقط في حفرة. فهي عمليّاً مدعوة من داخل ذاتها إلى محاولة إثبات ذاتها بمزيد من التطرّف السياسي والإرهاب العسكري.

في العلوم السياسية توجد نظرية عن الدول التي تصنع الأعداء لتحقيق تضامن داخلي. إسرائيل متفوّقة في هذه الصناعة.

وفي العلوم السياسية أيضاً توجد نظرية عن الدول التي تعتبر الحرب مدخلاً إلى التسوية التي تستجيب لمصالحها. والتسوية هي غير السلام. تكون التسوية دائماً حالة مؤقّتة، وتفرضها دائماً أيضاً ظروفٌ مؤقّتة. وكلّ مؤقّتٍ هو متغيّر. وعندما تتغيّر الظروف والمعطيات، التي تقوم عليها معادلات التوازن في القوى، تسقط هذه المعادلات وتتهاوى، ويكون ثمن سقوطها غالياً، ويكون انهيارها مدوّياً. والتاريخ حافل بمثل هذه الدروس والعِبر. لكنّ الغطرسة الإسرائيلية تغمض عينيها حتّى لا تراها. يراها فقط مفكّرون عقلاء من اليهود، الذين أُصيبوا بخيبة أمل من لاأخلاقية الممارسة العنصرية الإسرائيلية. فكان ازورارهم المدوّي مؤشّراً إلى مستقبل مدوٍّ.

لم يتحمّل كثير من المثقفين اليهود داخل إسرائيل وخارجها التبعات المعنوية لهذه السياسة “الجنوب إفريقية”. فأعلن بعضهم التخلّي عن جنسيّته الإسرائيلية احتجاجاً. وعاد كثير منهم مرّة أخرى إلى الدول التي هاجروا منها بعدما كانوا مخدَّرين بحلم الدولة المثالية التي يتطلّعون إليها

أمران لا تريدهما إسرائيل بقياداتها الحالية:

– الأمر الأول أن تكون دولة ديموقراطية من البحر (المتوسط) إلى النهر (الأردن)، تساوي بين الجميع يهوداً ومسيحيّين ومسلمين.

– الأمر الثاني أن تكون واحدة من دولتين، دولة يهودية ودولة فلسطينية، إسلامية – مسيحية.

ترفض إسرائيل الأمر الأول لأنّها أوّلاً لا تؤمن بالمساواة، من حيث المبدأ، بين اليهودي وغير اليهودي، ولأنّها ثانياً تخشى من المتغيّرات الديموغرافية الناتجة عن التكاثر الفلسطيني.

وترفض إسرائيل الأمر الثاني لأنّها لا تثق بالشعب الفلسطيني وبإمكان التعايش معه بسلام، خاصة بعد سلسلة الجرائم الجماعية التي ارتكبتها بحقّه منذ عام 1948 حتّى اليوم.

لذلك تقف ضد أيّ حلّ وضدّ أيّ تسوية ترتكز على أيٍّ من هذين الأمرين، واضعةً في السابق، واليوم أيضاً، كلّ محاولات الحلّ السياسي في طريق مسدود.

إقرأ أيضاً: القدس: البقاء في المكان معجزة الفلسطينيّين

لسنا نحن فقط من يقول إنّ في إسرائيل تنافساً بين قياداتها على التطرّف، وعلى المزيد من التطرّف، استخفافاً بمبادرات الانفتاح العربي عليها والتعاطف الدولي معها. بل الذين قالوا ذلك هم يهود شرفاء من أصحاب الرأي الذين جاهروا بذلك، ثمّ هاجروا، معربين ليس فقط عن استيائهم، بل وعن مخاوفهم من أن تقود هذه الممارسات تدريجياً إسرائيلَ إلى الانتحار الذاتي. اليوم يسأل هؤلاء العلماء والمفكّرون الكبار: أين جنوب إفريقيا؟ وأين روديسيا؟ طارحين علامة استفهام عن مستقبل إسرائيل: إلى أين إسرائيل؟

لقد رفع كثيرٌ منهم علامة الاستفهام هذه، على سبيل التحذير والتنبيه، لكنّ المتطرّفين في الأحزاب المتصارعة على السلطة وفي جماعات الاستيطان الهوجاء يضعون أصابعهم في آذانهم. فهم لا يسمعون لا صراخ الضحايا في القصف العشوائي على غزّة، ولا نداءات العقلاء منهم المحذِّرة من نتائج مناطحة الجدار المسدود.

                                                           

 

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…