المعركة الدائرة اليوم في القدس ليست معركة حيّ الشيخ جراح وحده، بل معركة القدس بأحيائها وحاراتها وتلالها ومعالمها وأبوابها وأسواقها وسكّانها. إنّها معركة الشيخ جرّاح بالطبع، لكنها، في الوقت نفسه، معركة حيّ سلوان وباب العمود والمسجد الأقصى، ومعركة ضد التهويد والطرد ومصادرة المنازل، وضد إلغاء حقّ المقدسيّين في الإقامة في مدينتهم، وهي صراع مع المستوطنين وجهاً إلى وجه منذ سنة 1968. حتّى المواجهةُ حين كانت تخبو أحياناً كانت لا تلبث أن تعود إلى الاشتعال مجدّداً. وهذه المصادمات المحتدمة الآن، بوقائعها الدمويّة، تبرهن، للمرّة الألف، أنّ المواجهة مع إسرائيل تجنّب الفلسطينيين دائماً المواجهة الداخلية الاستنزافية والتي تنتهي دوماً بلا طائل، وتبرهن أيضاً أنّ تكلفة المقاومة أقلّ بكثير من تكلفة المصادمات الفلسطينية – الفلسطينية البائسة.
لم تتمكّن الفصائل الفلسطينية من ابتكار طرائق جديدة ومتجدّدة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي منذ أن توقّفت المفاوضات المباشرة قبل أكثر من ثماني سنوات. غير أنّ أهل القدس، بإصرارهم وبأجسادهم، تمكّنوا من تطوير احتجاجاتهم إلى ما يشبه المقاومة المدنية التي من شأنها أن تتحوّل إلى مقاومة شعبية. وبهذا المعنى، فإن أهالي القدس، بمن فيهم أهالي حيّ الشيخ جراح، قد انتخبوا ممثّليهم، وأفصحوا بلا تردّد عن أنّهم فلسطينيّون، وأنّ القدس جزء من دولة فلسطين تحت الاحتلال.
الإنسان في البلاد الطبيعية لا يموت عادةً كما يرغب تماماً، لأنّ طريقة موته ترتبط بأمور شتّى كأخلاقيات المجتمع ومنظومة القيم الاجتماعية والدين والسياسات التي تقرّر، في أحيان كثيرة، مصائر الأفراد
فماذا ينتظر الفلسطينيّون في رام الله والخليل وأريحا ونابلس وجنين وطولكرم وبيت لحم كي يلتحموا في انتفاضة واحدة شاملة؟
قصّة الشيخ جراح
مساحة هذا الحيّ 800 دونم، ويقطنه، علاوة على سكّانه القدامى، فلسطينيون لجأوا إليه قسراً في عام 1948 من أحياء القدس الغربية مثل البقعة ولفتا ودير ياسين، ومن حيفا ويافا وبيت دجن. وقد تمكّن عدد من المستوطنين اليهود بعد عام 1967 من الاستيلاء على بعض المنازل في هذا الحيّ وسكنوا فيها، وبدأوا يسعون إلى تفريغ الحيّ من سكّانه الفلسطينيّين بعد إقامة نواة استيطانية أطلقوا عليها اسم “شمعون الصديق”. وقد استندوا إلى وثائق مزوّرة تزعم أنّ ملكية الأرض تعود إلى اليهود، وأنّهم اشتروها في عام 1885 إبّان عهد الدولة العثمانية. وهكذا دخلت القضية في دهاليز المحاكم الإسرائيلية. وفي سنة 1982، كلّف الفلسطينيون محامياً يهوديّاً متابعة قضيّتهم لأنّ المحامين الفلسطينيّين كانوا آنذاك في حالة إضراب، ويرفضون التعاون مع المحاكم الإسرائيلية. لكنّ ذلك المحامي توصّل في سنة 1992 إلى اتفاق مع ممثّلي المستوطنين، ومن دون موافقة الموكّلين الفلسطينيّين، ينصّ على أنّ ملكية الأرض تعود إلى اليهود لقاء منح السكان حقّ استئجار المنازل لمدة 99 سنة. وبناءً على ذلك “الاتفاق” غير القانوني، استطاع محامي المستوطنين أن يستصدر قراراً من المحاكم المختصّة بإخلاء بضعة مساكن. وفي سنة 2008، بدأت الجمعيات الاستيطانية اليهودية حملة في المحاكم الإسرائيلية لإخلاء المنازل من ساكنيها، وتمكّنت في سنة 2019 من الحصول على حكم نهائيّ بالإخلاء.
الموت والهويّة
الإنسان في البلاد الطبيعية لا يموت عادةً كما يرغب تماماً، لأنّ طريقة موته ترتبط بأمور شتّى كأخلاقيات المجتمع ومنظومة القيم الاجتماعية والدين والسياسات التي تقرّر، في أحيان كثيرة، مصائر الأفراد. لكن، في الحال الفلسطينية، أوجد المنفى واللجوء والإبادة والطرد ودوس الكرامات، وكلّها مفردات مشتقّة من الاحتلال الإسرائيلي، روحاً جماعيّةً لا تهجع إلا بالحرّيّة. لذا يصبح الموت، أو الاستشهاد، هو صاحب الشأن الرئيس في صوغ هويّة الجماعة الفلسطينية. ومن دون الموت، بالطريقة الفلسطينية التي نشهد فصولها في كل يوم تقريباً، تُخفق الجماعة في الاستمرار بوصفها جماعة لها هويّة تاريخيّة، ولها وجود إنساني، ولها كرامة وطنية. إنّها مسألة مضنية جدّاً. فإذا لم يمت الفلسطيني فربّما تموت فلسطينيّتُه المتحفِّزة. وحتّى يعيد إحياء فلسطينيّته في كل حقبة، عليه أن يموت. تلك قسوة إنسانية لا تُحتمل في معظم الأحيان. غير أنّ هذه الحال ليست خيار الفلسطينيّين، بل إنّ وجود الاحتلال الإسرائيلي يعني حكماً محاولة إماتة الجماعة الفلسطينية التي هي الأساس في بناء هويّة وطنية وكيانيّة مشتركة وكرامة إنسانيّة. والردّ على محاولات تبديد الجماعة هو المواجهة، ولا شيء غير المواجهة، حتّى لو أدّت إلى الموت.
دولة إخضاع
إسرائيل قوّة استعمارية إحلالية لم تخضع للمساءلة عن أعمالها أمام مَنْ تحكمهم وتتحكّم بمصيرهم. والجندي الإسرائيلي يتصرّف في الأرض الفلسطينية كأنّه في حرب الاسترداد في إسبانيا، أي أنّ الشراكة مع المواطن المستعمَر، ولو في الأمور اليوميّة، غير مطروحة على الإطلاق، بل إنّ المطروح هو إزالة مَنْ هم شركاء مفترضون، أي إزالة الغرباء الأغيار. وبهذا التفكير بات الاستعمار الكولونياليّ الإحلاليّ الإسرائيلي لفلسطين هو وسيلة لتفكيك الجماعة الفلسطينية وتشتيتها وطردها من المكان. فالمهمّ هو الأرض لا السكّان، وهذه هي، بالتحديد، الإبادة السياسيّة التي تهدف إلى منع الفلسطينيّين من أن يطوّروا كياناً سياسيّاً مستقلّاً لهم. وهذا هو المغزى التاريخي لِما يجري في القدس وفي حيّ الشيخ جراح. فإسرائيل تريد تحويل القدس من مدينة متعدّدة الأديان والثقافات إلى مدينة يهوديّة خالصة، لأنّ الصراع على القدس هو صراع على السيادة، أي على الأرض. وهو صراع على الإرادة السياسية للحؤول دون تحطيمها ومصادرتها. وهو صراع على الرموز (السيمياء) وعلى الرواية التاريخية.
إقرأ أيضاً: الصراع على القدس: حقّ الأرض وحقّ الدين
وفي معمعان هذا الصراع يصبح الفلسطينيّون مثل العشب، كلّما جززته نبت مجدّداً، أو مثل كيس الملاكمة، كلّما لكمته ارتدّ عليك بلكمة أقوى. والبقاء في المكان هو المعجزة الفلسطينية. فهو تذكير يومي بأنّ الشعب الفلسطيني لم يُهزم، وما برح يشكّل الخطر الماثل باستمرار أمام الاحتلال الإسرائيلي.