تخبرنا المرارات، الّتي احتلّت أرواحنا منذ أن سطا على البلاد منذ الثّمانينيات وباء مسلّح يتغطّى بالدين، أنّ كلّ موت قد صار قتلاً كامل الملامح، وجريمة موصوفة تحدث على رؤوس الأشهاد، وكلّ موهبة تغادرنا، يصعب علينا العثور على شبيه لها أو نظير لها.
رينيه ديك كانت من أولى قتلى هذا الوباء الّذي أعلن ظهوره من خلال منع رسم الموديل العاري في كليّات الفنون في الجامعة اللّبنانية، بعدما كان جزءاً ضروريّاً من الخبرات الفنيّة التي تقدّمها الجامعة إلى طلابها.
رينيه ديك كانت واحدة من ثلاث نساء قدّمن أجسادهنّ لخدمة فنّ الرسم في لبنان، وهما إضافة إليها مريم شبقلو، وميشلين ضو.
منع رسم الموديل العاري تحت حجج أخلاقيّة، والنّجاح في فرض هذا الأمر، كانا علامة لا تخطئ على تحوّلات كبيرة طالت روح لبنان، وسحبت منه كلّ ما هو مدنيّ وأحالته إلى ركام.
بعدما كان السّياح يأتون لزيارة مسارحها والتقاط الصور في مقاهيها، الّتي كانت مصانع إنتاج ثقافيّ وفنيّ، باتوا يأتون لالتقاط الصور أمام مرفئها المدمّر.
رينيه ديك كانت من أولى قتلى هذا الوباء الّذي أعلن ظهوره من خلال منع رسم الموديل العاري في كليّات الفنون في الجامعة اللّبنانية، بعدما كان جزءاً ضروريّاً من الخبرات الفنيّة التي تقدّمها الجامعة إلى طلابها
نمت سياحة الخراب وباتت المدينة أنقاضاً لا تستدعي الغزل بل الرّثاء.
معنى أن يتخرّج من كلّيّة الفنون من لا يجيدون رسم الجسد يصبّ تحديداً في تعزيز رمزيّة الدفاع عن الجسد المأزوم، الناقص، المشوّه، والمتخيّل، والمسجّى، أي ذاك الجسد الذي تخلقه الحروب والمجازر، الجسد المقتول والمقطّع الأوصال، الجسد الذي يتعرّض للاغتيال والقتل والتعذيب، بدلاً من تقديسه بالفنون.
كان رسم الموديل العاري لقاءً فنيّاً بالجسد الإنساني، وكان لا يعلّم طلاب الفنون مجموعة ضروريّة من التّقنيّات التي لا غنى عنها فحسب، بل كان يظهر الجسد بوصفه تحفة حيّة نضرة تستحضر الحياة بكلّ غزارتها وتنوّعها وغموضها وجماليّتها.
رينيه ديك كانت تدافع بجسدها عن لبنان المدمّر: “أنا خدمت الفنّ بالتمثيل وبجرأة الجسد كمان، الجرأة تعطيك فعل الدور مزبوط، في ناس خافو، أنا ما خفت”، تقول في إحدى مقابلاتها كاشفةً عن خصوصيّة تجربتها.
معنى جرأة الجسد يتجلّى في انحيازها الدائم إلى المسرح، إذ إنّها امتازت بتقديم الأدوار الصّعبة والمتحدّية والمتطلّبة، ومنذ مسرحيتها الأولى، الّتي قدمت فيها دور امرأة من آرغوس في مسرحية “الذباب” لجان بول سارتر، والّتي أخرجها منير أبو دبس عام 1963، وصولاً الى دورها الأيقوني في “الخادمتان” لجان جينيه، التي قدّمتها بنسختين، إحداهما بتوقيع المخرج التونسي عبد الرزاق الزعزاز، والثانية بتوقيع المخرج العراقي جواد الأسدي عام 1994.
كان رسم الموديل العاري لقاءً فنيّاً بالجسد الإنساني، وكان لا يعلّم طلاب الفنون مجموعة ضروريّة من التّقنيّات التي لا غنى عنها فحسب، بل كان يظهر الجسد بوصفه تحفة حيّة نضرة تستحضر الحياة بكلّ غزارتها وتنوّعها وغموضها وجماليّتها
على الرّغم من مشاركتها في عدد كبير من الأفلام، مثل “بيروت اللّقاء” لبرهان علوية، و”طيّارة من ورق”، و”متحضرات” لرندا الشهال، و”حياة معلّقة”، و”كان يا ما كان بيروت” لجوسلين صعب، وعدد كبير من المسلسلات، بقي المسرح هو الّذي يشكل خصوصيّتها ويطبعها، ذلك لأنّه يفرض الحضور المباشر للجسد بوصفه منتجاً للمعاني، في بثّ مباشر لا مجال فيه للتّحايل والكذب.
كل إنسان يحيا بما يهواه. رينيه ديك كانت تحيا بالمسرح ولا تستطيع العيش من دونه. ماتت رينيه ليس منذ أيام فقط، بل حين لم تعد البلاد تُعرَّف من خلال فنّانيها ومسارحها، وصار سكان الأقبية يتحكّمون في عيشها ولغتها.
إقرأ أيضاً: هوبكنز في فيلم “الأب”: فقدان الذّاكرة… كمصنع أحلام
في نفي الجمال قُتلت رينيه ديك. انطلاقاً من هذا النفي يتأسّس حالياً كلّ شيء في البلاد. إنّها بلاد تعذّب الفنّ والفنّانين وتاريخهم، وتحوّل حياتهم فيها إلى إقامة مديدة في حيّز الألم.
من اشتغلت معهم رينيه ديك من أعمدة المسرح اللّبناني، مثل منير أبو دبس وشكيب خوري، ليسوا هنا. لا تذكرهم الشّاشات ولا يقيمون في صورة البلاد حين تعبّرعن نفسها.
لم يُسمح لرينيه ديك وسواها الدفاع عن ذاكرتهم وعن ذاكرة وطنٍ كان يصنع عيشاً عالميّاً مشتهى انطلاقاً من محليّتها وخصوصيّتها، وكان يمثّل فعل اللّقاء الدّائم بكل ثقافات العالم الّتي كانت مسرحاً يحتضن نقاشاتها وحواراتها وحركيّتها.