يلاحق كلّ مخرج سينمائيّ ثيمة معيّنة ويركّز عليها ويتركها تخترق كل أعماله. الثّيمة التي يركّز عليها مخرج مثل “كوينتن تارانتينو” هي “الانتقام”، بينما تكمن الثّيمة الأساسيّة التي يهواها مخرج فيلم “النمر الأبيض”، الأميركيّ من أصول إيرانيّة، رامين بهراني “في صراع المرء مع ظروفه وما ينتج عنها من تحوّلات حادّة وصادمة”.
بطل فيلمه الشّهير “غود باي صولو” يصطدّم بالفشل مرة تلو أخرى خلال محاولته الحصول على وظيفة مضيف طيران، ومع كل مرّة كان اليأس يتراكم ويسحب معه جزءًا من كيانه حتى يصل في نهاية المطاف إلى حالة التبدّد التّام.
لكنّ بطل فيلمه الجديد “النّمر الأبيض” (من بطوبة آدراش غوراف، بريانكا شوبرا، راجكومار راو) والذي يعد واحداً من أهم إنتاجات “نتفليكيس” في 2021، يسلك طريقًا مغايرًا تمامًا ويقرّر التّضحية بذاته وسيرته وعائلته وإنسانيّته لتمهيد درب العبور المستحيل من طبقة الخدّام إلى طبقة رجال الأعمال.
قصة “بالرام”، بطل الفيلم، تًروى على طريقة السّيرة الذاتيّة، من خلال رسالة يقرّر توجيهها إلى رئيس الوزراء الصّيني، الّذي قرر زيارة الهند عام 2010 وعقد لقاءات مع نخبة من رجال الأعمال فيها. يروي في هذه الرسالة مسار صعوده، ويعرض الطّريقة التي صار فيها رجل أعمال يستحقّ أن ينضمّ إلى قائمة الشّخصيات التي سيقابلها.
بطل فيلمه الشّهير “غود باي صولو” يصطدّم بالفشل مرة تلو أخرى خلال محاولته الحصول على وظيفة مضيف طيران، ومع كل مرّة كان اليأس يتراكم ويسحب معه جزءًا من كيانه حتى يصل في نهاية المطاف إلى حالة التبدّد التّام
تنطلق حبكة الفيلم بكل تعقيداتها داخل تركيبة متماسكة ومتجانسة، وتركّز على التّقابل بين الاستثنائيّ والعاديّ الّذي بلغ درجة عالية من التّمكن والصّلابة حتى صار بمثابة دين وعقيدة، ففي الهند ذلك البلد الذي تنتشر فيه مئات الأديان، يبدو ما يسميه “دين الخدّام” متّسما بدرجة من الوحدة السّلوكية الشّاملة والكليّة.
لا يخون الخدم أسيادهم أبدًا، ولا يحاولون الحصول على الحدّ الأدنى من حقوقهم، بل يقتصر طموحهم على محاولة إرضائهم.
السّبب في ذلك يتجاوز الخوف وشبكة التّهديد الّذي يحيط به الأسياد الخدم، بحيث يفرضون على عائلاتهم شبكة من الحصار الّتي قد تنتهي بمجزرة جماعيّة في حال فكّر أيّ خادم بالتّمرّد عليهم.
الأمر لا يتعلق بتأثير الرّعب وحسب، لكنه يتجاوز ذلك ليتحوّل إلى نوع من الإيمان الرّاسخ الّذي يجعل من عملية الانتقال الطّبقي مستحيلة.
مسار بالرام الذي انتهى بتحوّله إلى رجل أعمال يبدأ بالتّخلص التّدريجي من تبعات ورواسب هذا الإيمان واتّخاذ قرار بتحمّل الإقامة المريرة في وضعيّة “الخادم” برتبة “سائق” عند طبقة ثريّة، والحرص على إنضاج طبخة التّمرد على نار هادئة تمهيدًا للوصول إلى القرارات الحاسمة والنّهائيّة التي تقدم في صيغة طفرات وعي يعثر عليها البطل خلال غوصه في ذاته، ويعرضها الفيلم بشكل عبارات من قبيل: “أنت تبحث دائمًا عن المفتاح لعدّة سنوات، ولكنك لا تنتبه أنّ الباب مفتوح دائماً”.
الباب المفتوح ليس سوى الجريمة والسّياسة كما يقول خطاب الفيلم، وعندما يقرّر بالرام سلوك دربهما بلا تردّد يتحوّل بشكل نهائي إلى نمر أبيض، ذلك الكائن الأسطوري في الهند، الذي لا يظهر إلا مرة واحدة كلّ جيل، ولا يسمح لأي رواسب من أصله و تاريخه أن تؤثّر وتعيق عملية التحوّل. وهو بالرام، يصير النمر في لحظة التمرّد.
لا يبالي بطرد السّائق الآخر. يبحث عن شيء يمكنه استخدامه ضدّه، وحين يكتشف أنّه مسلم يستعمل الموضوع دون تردّد، ويتسبّب بطرده من دون أن يبالي باستعطافه الّذي يعلن فيه أن لديه عائلة، بل يسخر منه قائلاً: ألسنا جميعاً لدينا عائلات؟
الخادم بالرام الّذي لم يتورع عن توقيع اعتراف ينصّ بمسؤوليه عن قتل طفلة شاردة دهستها زوجة سيّده حين قررت القيادة بتهور بغرض اللّهو والعبث، لا يدخل السجن، فقط لأن لا أحد بلّغ عن الحادثة، وهنا يجد نفسه أمام فرصة لتغيير مصيره.
التّحول يتطلّب قبل كلّ شيء تحديد الأمور وتوصيفها، وهذا تحديداً ما فعله حين وضع كلّ من ينتمي إلى طبقة الأثرياء في خانة واحدة، وراح ينتهز الفرصة للانتقام منهم. انتقام لا يكون يكون فاعلاً إلا إذا نجح في تحقيق الاستثناء المستحيل والتفوّق عليهم في ملعبهم.
لا يخون الخدم أسيادهم أبدًا، ولا يحاولون الحصول على الحدّ الأدنى من حقوقهم، بل يقتصر طموحهم على محاولة إرضائهم
يعرض الفيلم مسار الصّبر الشّاق الذي اعتمده البطل كوسيلة لنيل مآربه بأداء باهر للنجم آدراش غوراف الّذي راحت الكاميرا تركز عليه طوال الوقت وكأنّها تؤكّد على أنّ الفيلم يقوم عليه بشكل خاص.
قد يكون خيار المخرج موفقًا وناجحًا، لكن ربما كان من الأفضل لو استفاد أكثر من حضور النّجمة بريانكا شوبرا والنجم راجكومار راو، فقد لعبوا في الفيلم دور “سنّيدة” البطل وحسب.
ربما نفهم لجوء بهراني إلى هذا الخيار، وكذلك فإنّ انتقاده قد يكون مشروعًا، ولكنّ ذلك لا يعني أنّه لم ينجح في تقديم وجه سينمائي يرجّح أن يكون له شأن كبير في عالم الجوائز والتّرشيحات. فقد قدم آدراش غوراف أداء قويًّا ومتماسكًا وبلا ثغرات، لدرجة دفعت بالكثير من النّقاد إلى مقارنته بأداء روبيرت دي نيرو في فيلم “سائق التاكسي” وبغيره من عمالقة التمثيل.
إقرأ أيضاً: “فاكهة غريبة”: الأغنية التي صارت نشيداً وطنياً للسود
يمكن الإشارة إلى طريقة التصوير واختيار المخرج كادراته، وتنقّله من الواسع إلى الضّيّق أكتر من مرّة، وعرضه المكان كما لو أنّه يحكي بنفسه القصة وتركيزه على الكشف عن تفاصيله ووضعها في خدمة القصة الّتي يسردها البطل. والحرص على الابتعاد عن الألعاب المعقّدة والبنى الإخراجيّة المتكلّفة جعلت الفيلم واقعيًّا وحيًّا ومتّسما بدرجة عالية من المتانة والمصداقيّة والتّجانس.
في النهاية وبعد الصبر ينجز البطل عبر الجريمة وقتل سيّده، وسرقة أمواله وانتحال اسمه، والرّشوة، والتّخلي عن عائلته، عمليّة الانتقال الطبقيّ إلى درجة رجل الأعمال. لكنّه لا ينسى أن يخبرنا، بأمانة أشبه بالاعتراف، أنّ الدّرب الاستثنائيّ الّذي نجح في عبوره ما كان ليتّم لولا أنه دفع ثمناً استثنائيّاً، وهو التّخلي عن كل ما يجعله إنساناً.
لقد تحوّل إلى نمر أبيض، وتاليًا لم يعد إنسانًا بل بات كتلة صمّاء من الجريمة والسّياسة التي يكمن فيها بشكل حصريّ درب الصّعود الطبقي.