“فاكهة غريبة”: الأغنية التي صارت نشيداً وطنياً للسود

مدة القراءة 6 د

يتناول فيلم “الولايات المتّحدة ضد بيلي هوليداي” قصّة الحرب الّتي شنّتها وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة على أغنية “الفاكهة الغريبة”، وهو من إخراج “لي دانييلز” وبطولة “أندرا داي” ويُعرض على منصّة “هولو”.

أطلقت مغنّية الجاز الشّهيرة بيلي هوليداي هذه الأغنية للمرّة الأولى عام 1939 في حانة “كافيه سوسيتي”، وهي الحانة الوحيدة الّتي كانت تسمح باختلاط الأعراق في تلك الفترة. منذ ذلك الوقت بقيت مصرّة على غنائها في كلّ حفلاتها على الرّغم من كلّ التّهديدات.

تعرض الأغنية لموضوع الإعدام خارج القانون الّذي كان ممارسةً شائعةً في تلك الفترة، وتصوِّر كيف حوّل العنصريون البيض الأشجارَ إلى مشانق تتدلّى منها “فاكهة غريبة” ليست سوى أجساد السود المعدَمين.

عرفت الأغنية انتشاراً هائلًا وباتت النّشيد الرّسميّ لحركة المطالبة بحقوق السّود، ولكنّها في الآن نفسه كانت عنواناً لمأساة صاحبتها، فقد سبّبت حرباً شرسة شنّتها عليها الأجهزة الحكوميّة المركزيّة الأميركيّة، وسجنتها لعام بتهمة تعاطي المخدّرات، ولم تتوقّف الحملة عليها حتى لحظة وفاتها وهي في الـ44 من عمرها، حين اعتُقلت وهي تُحتضر.

يقول “لي دانييلز” في مقابلة حول الفيلم: “هذه دعوة لحمل السّلاح، فنحن في وقت خطر للغاية اليوم، وقد شعرتُ بكل ذلك قبل عام ونصف عام، عندما كنت أصنع الفيلم. علمت ما ستؤول إليه الأمور وأنّنا سنكون على هذه الحال، ثمّ شعرت أنّنا نحتاج إلى أشخاص أكثر مثل بيلي ومحاربين أكثر مثل بيلي”.

تعرض الأغنية لموضوع الإعدام خارج القانون الّذي كان ممارسةً شائعةً في تلك الفترة، وتصوِّر كيف حوّل العنصريون البيض الأشجارَ إلى مشانق تتدلّى منها “فاكهة غريبة” ليست سوى أجساد السود المعدَمين

يحرص المخرج المثير للجدل على تقديم فيلمه الجديد على أنّه نتاج تحوّل في شخصيته وفي أساليبه، ويحاول أن يستقبل استقبالاً مغايراً التّقويمات السّلبيّة لمنهجيّته السّابقة التي كان يركّز خلالها على إقناع الممثلين بتقديم مشاهد صادمة.

 في هذا الفيلم بدا المخرج وكأنّه يخشى موضوعه الرّئيسيّ، وهو سيرة الأغنية الممنوعة، فيلجأ إلى مجموعة قصص مختلفة تعرض جوانب من سيرة بيلي هوليداي، في إيقاع يبدو غير متجانس على طول الخطّ، ويفقد كثافته في العديد من المحطات.

يمشي الفيلم بحركة بطيئة معتمداً على إحياء التّراث الغنائيّ لبيلي هوليداي والتّركيز عليه، وكأنه يريد التعبيرعن الإيمان بقوّة الصوت ورفعه فوق كل مقام.

من هنا يمكن المجازفة بالقول إنه ربّما أراد فيلمه صدىً مرئيّاً لأغنية “الفاكهة الغريبة” وليس فيلماً عنها.

تضع قوّة الأغنية الهائلة والاستثنائيّة التّمثيلَ البصريَّ لها، أو محاولةَ ترجمتها سينمائيّاً في فيلم واحد، أمام جملة من المآزق الصّعبة الّتي تلامس الاستحالة، لذا حاول أن يقاربها من مدخل الصّوت والتّركيز الشّديد عليه، والاستفادة من قدرات “أندرا داي” وقدرتها على تقديم أغاني هوليداي ببراعة لافتة.

هذا الرّهان لم يكن ناجحاً دائماً، لأنّه أفقد الفيلم القدرة على التركيز على مواضع الثقل في القصة، وجعله عاجزاً عن رواية سيرة “بيلي هوليداي” خارج ارتباطها المصيري بالأغنية، وعن تحويل حشد الأغاني المتناثرة إلى نوع من السّيرة الموازية.

على الرّغم من ذلك نجحت الممثّلة والمغنّية “أندرا داي” في اقتحام عالم شخصيّة بيلي ببراعة لافتة، استحقّت على إثرها التّتويج بجائزة “الغولدن غلوب” التي تمثِّل المدخل الرّئيس للفوز بالأوسكار.

تتناثر في الفيلم حكايات تتناول مؤامرات “هاري أسلينجر”، المسؤول في جهاز الاستخبارات المركزيّ الأميركيّ، على مغنّية الجاز، عبر جيمي فليتشر، الموظّف الأمنيّ الأسود الّذي جعلته عشيقها على الرّغم من كونه مسؤولاً عن سجنها.

يسرد قصة زواجها ونجوميّتها التي لم تمنحها مكانةً تسمح لها بالخروج من الأبواب الأماميّة، فبدا مجداً زائفاً كلُّ ما حقّقته من شعبيّة كبيرة في أوساط متباينة عرقيّاً وثقافيّاً.

لا تظهر كلّ هذه العناوين، على الرّغم من التّمكّن التّقنيّ الّذي قُدّمت من خلاله. عناوين بدت متماسكةً سرديّاً ودلاليّاً. واقتصرت لحظات نصر بيلي حين تغنّي “فاكهة غريبة”. وحين سألت عشيقها عن أفضل أغانيها في نظره، لم يقُلْ إنه يفضّلها بل فضّل أغنية “كلّي”، وهي رومانسيّة جميلة، لكنّها ليست الأغنية الّتي تريد التّعريف عن نفسها من خلالها.

هذا الرّهان لم يكن ناجحاً دائماً، لأنّه أفقد الفيلم القدرة على التركيز على مواضع الثقل في القصة، وجعله عاجزاً عن رواية سيرة “بيلي هوليداي” خارج ارتباطها المصيري بالأغنية، وعن تحويل حشد الأغاني المتناثرة إلى نوع من السّيرة الموازية

بالنسبة لهوليداي يبقى كلّ ما يقع خارج مدار “الفاكهة الغريبة”، مهما نجح في استثارة البهجة واستدرار الأموال والنّجاحات، موقّتاً وزائلاً ومزيّفاً وعابراً، لكنّها لا تستطيع إلّا التّعامل معه.

بطلة الفيلم شرحت، في مقابلة حديثة أُجريت معها، أسباب عدم استعمال هوليداي نفوذها لمواجهة الرجال الّذين أذوها لحظة صارت صاحبة نفوذ. تقول إنّها تعاملت مع الموضوع بوصفه “جزءاً من الحياة” تحوّل إلى “إساءة تم تطبيعها”.

في لقطات كثيرة ركّز الفيلم على جسد البطلة وأحواله، وهنا تجلّت خصوصيّة إخراج “لي دانييلز” وعلامته المميّزة. جسد هوليداي كان موصولاً بتاريخها ونشأتها مع أمّ قاسية أجبرتها على ممارسة الدّعارة حين كانت لا تزال طفلة.

إقرأ أيضاً: كيف انتصرت ملكة بريطانيا على “كنّتها”؟

ظهر الجسد على امتداد الفيلم بوصفه جسداً يتذكّر وحاملاً لتاريخه، ولا يستطيع استقبال اللّذة إلا بوصفها استراحة قصيرة من ألم أصليّ ودائم ومستمرّ. لكنّه جسد الأرض الّتي تحضن ما يفيض عنها وما لن يكون ملكاً لها، أي الأغنية. لذا حرص الفيلم أن يرينا مسار تبدّده وفنائه، الّذي هو في الوقت نفسه مسار خلود الأغنية وخروجها عن زمنيّة الجسد وحدوده.

إنصافًا للفيلم لا بدّ من التّنويه بأنه قدّم الصّراع بين الشّخصيّة الحاملة لأغنية تحوّلت إلى عنوان حقوقيّ ومطلبيّ عريض، وبين المرأة الضّعيفة المدمنة على المخدّرات، تقديماً واضحاً ينطوي على جماليّة كبيرة.

وقد يكون ثقل الموضوع سبباً لمنح المخرج أسباباً تخفيفيّة، فهو لم يتحوّل إلى تاريخ بعد، بل لا يزال جارياً ولم تُختم فصوله، بل تتعقّد عناوينه وتتشعّب، ويدخل في تركيبها الكثير من المؤثّرات السّياسيّة والثّقافيّة الاجتماعيّة.

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…