كيف انتصرت ملكة بريطانيا على “كنّتها”؟

مدة القراءة 5 د

في المقابلة الطّويلة الّتي أجرتها أوبرا وينفري مع الأمير هاري وزوجته ميغان ماركل، اتّخذت تصريحات ميغان صيغة الاتّهامات المباشرة للعائلة المالكة بـ”العنصريّة” ودفعها إلى محاولة الانتحار.

على الرّغم من أنّ هذه العناوين تتصل بالبنى العامة التي تتحرّك ضمنها خريطة التعاطف العالميّة حاليّاً، كونها تتصل بعنواني العنصريّة وحقوق المرأة، إضافة إلى الحديث عن أشهر عائلة ملكية في التاريخ، إلا أنّ ميغن لم تنجح في إثارة التّعاطف معها.

على العكس من ذلك جوبهت بتعليقات سلبيّة ساخرة على مواقع التّواصل الاجتماعي وبمواقف من شخصيّات عامة، إعلاميّة وسياسيّة، ترفض التّعاطف معها وتتّهمها بالكذب وانعدام الصّدقيّة. وظهرت توظيفات تتعامل مع تصريحاتها وكأنّها غير قادرة على إيجاد قضيّة، ولا بدّ من تناولها عبر وضعها في سياق آخر، كما فعلت صحيفة “شارلي إيبدو”.

اختارت الصّحيفة المثيرة للجدل مقاربة الموضوع عبر نشر نصّ حواريّ يستعيد مشهديّة موت جورج فلويد سائلاً: |لماذا لم تنجح ميغان في البقاء في قصر باكينغهام؟”. ليأتي الجواب: “لأنها لا تستطيع التنفّس”، مرفقةً النصّ برسم يصوِّر الملكة وهي تجثو على رقبة ميغان بطريقة مماثلة للّتي فعلها شرطي أميركيّ مع الرّجل الأسود فلويد والّتي تسبّبت بوفاته، وكانت آخر كلماته “لا أستطيع التّنفس”.

لم تستطِع الصّحيفة السّاخرة التّحدث عن ميغان انطلاقاً مما قالته. استعملت ثنائية الحماة والكنّة في محاولة لتقديم تناول ساخر للموضوع، لكنّها عمليّاً فرّغته من مضمونه وسخّفته من ناحية، وحرفت الأنظار عنه من ناحية أخرى.

في المقابلة الطّويلة الّتي أجرتها أوبرا وينفري مع الأمير هاري وزوجته ميغان ماركل، اتّخذت تصريحات ميغان صيغة الاتّهامات المباشرة للعائلة المالكة بـ”العنصريّة” ودفعها إلى محاولة الانتحار

النّقاش الّذي أثارته “شارلي إيبدو” لم يعد مرتبطاً بميغان على الإطلاق، بل صار متعلّقاً بالإساءة إلى رمزيّة جورج فلويد، والاعتداء على موقع الملكة ومكانتها، وتسبّب بإطلاق حملة تعاطف كبيرة معها عبر هاشتاغ “حفظ الله الملكة”، الّذي تصدّر التّرند.

لم نعثر على شخصيّة معروفة تعاطفت معها سوى ميشيل أوباما، الّتي رأت أنّ ما أدلت به في المقابلة لناحية مواقف العائلة المالكة من لون ابنها قبل ولادته “يدمي القلب”.

لكن خارج هذا الموقف ساد اتهامها بالكذب، إذ رأى الإعلاميّ الشهير بيرس مورغان نجم قناة “إي تي في”، أنّ ما قامت به من شن هجوم على العائلة المالكة “أمر وضيع”. ولم يكتفِ بذلك، بل أطلق عليها لقب الأميرة “بينوكيو”، في إشارة إلى الشّخصيّة الخرافيّة الشّهيرة المعروفة بكثرة الكذب والأنف الطويل.

عربيّاً شارك الإعلامي المصري عمرو أديب في الحملة بطريقته الخاصة، واصفاً ما قامت به ميغان بأنّه “بَطَر”، وبأنّها أفسدت حياة زوجها الأمير هاري ولم تراعِ خصوصيّة التّعاطي مع العائلة المالكة، ولم تفهم أنّ من تتزوّجه ليس رجلاً عاديّاً، بل ينتمي إلى أسرة مالكة وله منصب في الجيش، ثمّ توقّع على طريقة العرّافين عدم استمرار هذا الزّواج. وذلك بلهجة أديب المصرية المحبّبة وتعليقاته حول “الحما والكنّة”.

في الحقيقة تُحرِج حالة ميغان إحراجاً واسعاً كل مؤسّسات التّعاطف القائمة حاليّاً، لأنها لا تستجيب لتحديداتها المباشرة، فهي ليست ضحيّة مثاليّة واضحة المعالم يمكن الاستثمار فيها وتوظيفها.

على خلاف شخصية الأميرة ديانا، التي توفيت في ظروف غامضة، آثرت ميغان الرحيل وإعلان أسباب رحيلها باتهامات وجّهتها إلى العائلة المالكة البريطانية.

لم نعثر على شخصيّة معروفة تعاطفت معها سوى ميشيل أوباما، الّتي رأت أنّ ما أدلت به في المقابلة لناحية مواقف العائلة المالكة من لون ابنها قبل ولادته “يدمي القلب”

لا تعترف خريطة التّعاطف القائمة حاليّاً بسوى الحالات الّتي يمكن اختصارها في بُعدٍ محدّدٍ وكاملٍ، يسمح بالتّوصيف النّهائي القابل للتّوظيف في مسارات مؤطرة سلفاً. يجب أن تكون الضحية مثلاً امرأةً سوداء تعرّضت للاعتداء من رجال بيض، أو أن تكون مثليّةً أو زوجةً معنّفة، أو في حالات أخرى يجب أن تكون نجمة كبيرة تخلّت عن موقعها في سبيل قصة حبّ.

لا يستجيب واقع ميغان لكلّ هذه التّحديدات، فهي حالة متوسطة في كل شيء. إنّها ليست سوداء بل سمراء، وليست ممثّلة مميّزة قد وصلت إلى مرتبة النّجوميّة وتخلّت عنها بسبب قصة حبّ، بل هي ممثّلة متوسّطة.

 كلّ ذلك يجعل توصيفها متعلقاً بشكل حصريّ بالعائلة المالكة، وكأنّ الجميع ينظرون إليها من هذا الموقع وحسب، أي بوصفها لا تمتلك حضوراً خارج هذا الارتباط، بغضّ النّظر عن طبيعته، وإذا ما كان يتّسم بالانسجام أو بالتّأزّم والصّراع.

إقرأ أيضاً: ماذا تشاهدون في الحجر؟: نوافذ الهروب من الوقت؟

إنّ السّكن أمام عدسات الكاميرات هو الهدف الّذي قد يجعل ميغان تحقّق انتصارها المُشتهى على العائلة المالكة. ولعلّ متطلّبات هذه الإقامة، الّتي تساوي بين التّعاطف وانعدامه وبين التّلقّي السّلبيّ والإيجابيّ، تتوافر فيها تماماً.

في هذا العالم الذي تقتحمه ميغان ليس مهماً كونها تكذب فعلاً أو تقول الحقيقة، بل المهم أن تكون في موقع يتيح لها سرد قصة تستجرّ الاهتمام والتّفاعل.

عبارة “الميغزيت” التي استعملت لوصف خروج ميغن من العائلة الملكة، في نحت  ساخر لعبارة “البريكزيت”، لا تعني سوى أنها صنعت علامتها التّجارية الفارقة الّتي يُرجّح أن تتحوّل إلى علامة لا تخطئها العين.    

مواضيع ذات صلة

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…