مع حلول الذّكرى العاشرة لانفجار الثّورة السوريّة ضدّ النّظام الأسديّ، بدت استعادة عبارة “تجرّأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة”، وانتشارها الواسع على وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وتزيين بروفايلات مناصري الثّورة بها، وكأنها محاولة لإحياء الثّورة في معناها وأثرها.
وكانت المخرجة السورية وعد الخطيب قد ارتدت فستانًا مزيّنًا بهذه العبارة في حفل الأوسكار العام 2020، ومنذ ذلك الوقت نالت شهرة كبيرة.
ومع أنّ هذه العبارة لم تكن سوى أحد التّعبيرات الكثيرة التي أفرزتها الثورة، ولكنّ خصوصيّتها الّتي جعلتها تحتلّ واجهة المشهد، تفسّر في أنها لا تعرض لمسار الثّورة وحسب، ولكنّها تخاطب المستقبل، وتحرّض على الأمل والاستمرار، على الرّغم من أنّ المأساة السّوريّة قد باتت مفتوحةً وبلا حدود.
تجبر هذه العبارة العالم على التعامل مع ما يريد أن ينساه، وتعيد نقاش الحرّيّة والحقّ فيها إلى واجهة الحدث، وتدفعه إلى المشهد العام.
الجرأة على الحلم بالحريّة في مواجهة نظام إباديّ، والأثمان الغالية التي دفعها السّوريون في محاولاتهم الحفاظ على كرامتهم، تضع سؤال الثّقافة والسّياسة في كل العام في موضع اختبار الصدقيّة.
كانت المخرجة السورية وعد الخطيب قد ارتدت فستانًا مزيّنًا بهذه العبارة في حفل الأوسكار العام 2020، ومنذ ذلك الوقت نالت شهرة كبيرة
ببساطة يسائل السوريون بثورتهم البنى القانونيّة والأخلاقيّة الصّانعة للشّرعيّات والمؤسِّسة للثّقافات، والّتي تقوم عليها الدّساتير والقيم الّتي تضع من يؤمن بها وينفّذها في دائرة العالم المعاصر، وتُخرج من يعاديها منه.
الحقّ في الحرّيّة يحتلّ الموقع الرئيسيّ من كلّ نظام قانونيّ وثقافيّ، وبناءً عليه فإنّ السوريّين قالوا بثورتهم سابقًا، ويقولون الآن في العبارة التي يستعيدون بها ذكراها، إنّهم يريدون أن يكونوا جزءًا من العالم، وإنّ مشكلتهم مع الأسد لا يمكن النّظر إليها بوصفها مشكلةً سوريّة تتعلّق ببلد شرق أوسطيّ لا يتصل جغرافيًّا بعواصم القرار، بل تمثّل أزمة تهدّد ثقافة العالم وانتظامه في كل مكان.
الدّلائل على صحة ما ذهب إليه السوريّون تتجلّى بشكل خاص في الميدان الثّقافيّ. فمن كان يتصور أنّ أوروبا المعاصِرة التي تختزن تجربة 300 عام من التّنوير، تعود فيها أفكار متطرفة وبالية إلى الظّهور والانتشار، واكتساب شعبيّة جماهيريّة وثقافيّة، وحضور في الخطاب الثّقافي والاجتماعي والسّياسيّ، وأنّ كل ذلك يحدث بسبب بسبب امتناعها عن الدفاع عن قيم الحرية والكرامة العالمية ضدّ التّهديد الرّاديكالي الّذي يمثّله نظام الأسد.
لا يستطيع العالم بثّ قِيَمه ولا الدفاع عن ثقافته، ما لم يحصل السوريون على حرّيّتهم وكرامتهم. ذلك الجرح الذي يبرزه السّوريون في الذكرى العاشرة لثورتهم، رافضين سحبه من التّداول، هو جرح إنسانيّة لم تعد قادرةً على الإيفاء بشروطها الّتي وضعتها بنفسها.
كثيرون علّقوا على هذه العبارة واستقبلوها بالقبول والتّرحيب، في حين أنّ ما آلت اليه الأمور دفع بآخرين إلى السّقوط في هاوية اليأس، والإصرار على أنه لم يعد هناك أيّ معنى لهذه العبارة أو غيرها، وأنّ الهزيمة كاملة ونهائيّة، ولا بد من التعامل مع الأمور انطلاقًا من الواقع المرّ.
آخرون سخِروا من الطريقة التي كانت “وعد” قد ارتدت فيها الفستان، فجاء ترتيب كلمة الكرامة في أسفل الفستان الذي يلامس الأرض، وتاليًا فانّ هذا يعني رمزيًّا في نظرهم أنّ الكرامة قد مُسحت بها الأرض.
ولكنّ العدد الأكبر من القراءات استقبلها بوصفها قادرةً على حمل الثّقل الدلالي والرّمزي لفكرة الثورة السورية.
الكاتب السّوريّ ماهر مسعود كتب على صفحته الفيسبوكيّة قائلًا:
“يا إلهي شو حلو إنّك تبدع جملة تتسطّر وتنحفر بتاريخ سوريا والثورة السّورية بهذا الشكل الجميل والأنيق اللّي مزيّن الصفحات السورية اليوم.
جملة مليئة بالثّقة والجرأة والحزن المأسويّ والتّحدي والكبرياء والحلم معًا.. فقد تجرّأنا على الحلم رغم كونه مستحيلًا، ولن نندم على الكرامة رغم الثّمن الذي لا يُحتمل..
جملة تكثّف المأساة السورية من دون أن تطلب أيّ ذرّة استعطاف من أحد، وتجسّد الحلم السّوري كحلم يموت واقفًا لكن لا يمكن هزيمته..
جملة تدفع اللغة إلى حدود الموسيقى، لغة لا يمكن ردّها، ولا الردّ عليها بأجمل منها.
لا يستطيع العالم بثّ قِيَمه ولا الدفاع عن ثقافته، ما لم يحصل السوريون على حرّيّتهم وكرامتهم. ذلك الجرح الذي يبرزه السّوريون في الذكرى العاشرة لثورتهم، رافضين سحبه من التّداول، هو جرح إنسانيّة لم تعد قادرةً على الإيفاء بشروطها الّتي وضعتها بنفسها
وعد الخطيب، لم تنتج وتوثّق فيلمًا وصل للعالميّة واستحقّ الأوسكار بجدارة فحسب، بل أبدعت تلك السطور التي تخترق الزّمن السّوريّ المبعثر اليوم، وتكثّفه بأرواح تنثر كلماتها في فضاء مفتوح على الذّاكرة والمستقبل، وتشاركها الاحتفال التّراجيديّ بالحلم، الحلم الذي تجرّأنا عليه، ولا شيء في هذا العالم سيجعلنا نندم على الكرامة..”.
الشّاعر السّوري نوري الجرّاح يقول في حديث خاص لموقع “أساس”: “ممتازة العبارة الّتي استُعملت لإحياء الذّكرى العاشرة لانطلاق الثّورة السوريّة، لأنّها تستهدف المستقبل، وفي هذه المناسبة لا بدّ من القول إنّ المعارضة السّياسيّة للنّظام فشلت فشلًا ذريعًا، وحاليًّا لم يعد هناك من يستطيع التّعبير عن روح الثّورة سوى الأدباء والشّعراء والفنّانين والحقوقيّين والسّينمائيّين”.
إقرأ أيضاً: قضية عدنان الزراعي: الدراما السورية في ملفّ “قيصر”
الجرّاح يعتبر أنّ عمق المأساة السّوريّة يتجلّى في أنّ الاحتلالات الّتي تتقاسم النّفوذ فيها، لا تحرص على التّصرف كاحتلالات تبحث عن توكيد حالة من المشروعيّة الثّقافية والمؤسّساتيّة، بل تتصرّف كعصابات وميليشيات، وتاليًا فهي تماهت مع الاحتلال الأسديّ وتكاملت معه في اقتلاع الثّقافة ومعاداة مفاهيم الكرامة والحريّة”.
من هنا فإنّ إصرار السوريين على بثّ كلام يؤكّد ما تنفيه الاحتلالات يتّخذ صيغة “الدّفاع عن الأمل الّذي من دونه لن يكون أمامهم سوى دفن أنفسهم”.
ويؤكّد في ختام حديثه أنّ “ما شهدته عبارة الخطيب من انتشار واسع على الصّفحات اللّبنانيّة، إنما يعبّر عن الرّابطة الأخلاقيّة والثّقافيّة التي تجمع بين الشّعبين، ويؤكّد أنّ قِيم الثّورة السّورية تجد في ثورة اللّبنانيّين امتدادها واستمرارها”.