يخرج كل يوم صباحًا. يجرّ عربته بهدوء وقد حمّلها بالكعك والجبنة البيضاء وجبنة البيكون الصفراء، وبالسمّاق.. وسائر العدّة. يقف عند تلك الزاوية التي استطاع الحصول على موافقة للركن فيها، لكن “بألف واسطة وواسطة”، على أوتستراد البحصاص. يقضي ساعات عدّة منتظرًا توقّف السيارات والباصات، وأن “يستفتح” ببيع الكعك، وعندما يبيع بضاعته، يعود إلى منزله حيث تنتظره زوجته الحامل بطفلها الأوّل..
لا تتخطى غلّته اليومية الصافية في أحسن أحوالها الـ40 ألف ليرة لبنانية، أي 4 دولارات أميركية كحدّ أقصى، منها عليه أن يقتطع بدل إيجار منزله، والفواتير الضرورية كالكهرباء والطعام والشراب، وتكاليف الولادة، ولا ترَفَ لديه لأن يمدّ اشتراك كهرباء أو إنترنت.
لهذا الشاب العشريني طموحات غير الوقوف يوميًّا تحت حرارة الشمس، أو مواجهًا لعواصف ثلجية مثل “جويس” الأخيرة، وغيرها من العواصف التي لا ترحم الفقراء. لكنّ القدَر لم يمتثل لطموحاته، فبعد حصوله على شهادة البريفيه، ترك المدرسة مضطرّاً كي يعين عائلته. لكنّه ليس آسفًا. فالكثير من شبّان طرابلس تخرّجوا من الجامعات وعلّقوا الشهادات على الحائط وانخرطوا في مِهن تقيهم من الجوع. وهذا الشاب عمل في أكثر من مهنة، جرّب حظّه كثيرًا، لكنّ البدل القليل دفعه دائمًا إلى أن يغادر مكان عمله بحثًا عن وظيفة. لكنّ الوظيفة في طرابلس “حُلم”، فقرّر أن يكون بائع كعك، يجني يوميًّا ما يحميه ويحمي زوجته وابنه المستقبلي من الفقر والعوز.
لا تتخطى غلّته اليومية الصافية في أحسن أحوالها الـ40 ألف ليرة لبنانية، أي 4 دولارات أميركية كحدّ أقصى، منها عليه أن يقتطع بدل إيجار منزله، والفواتير الضرورية كالكهرباء والطعام والشراب، وتكاليف الولادة، ولا ترَفَ لديه لأن يمدّ اشتراك كهرباء أو إنترنت
لكن لماذا نتحدث عن بائع الكعك؟
لأنّ بائع الكعك هذا هو ابن طرابلس، التي اتُهم الثائرون من أهلها بالإرهاب. وبائع الكعك هو نفسه ثائر. ليس إرهابيًّا ولا سلاح لديه. نزل إلى ساحة النور مرّات عدّة، طالب باستقالة الحكومة، وطمح لاستقالة رئيس الجمهورية، ثم اصطدم بسلطة وقِحة، تدوس على شعبها وعلى كرامته من دون أن أيّ رادع أخلاقي.
بائع الكعك هذا هو نفسه الذي جعل منه العونيون نُكتة، كي يشيروا إلى طرابلس بالجهل ويتّهموها بالتطرّف. لكن تناسى العونيون أنّ الكعك في طرابلس هو من ذاكرة المدينة.. وأنّ رائحته تعبق فوق الجدران، وفي الحارات القديمة..
ولأنّ للكعك ذاكرةً أيضًا.. فإنّ من يعرف طرابلس في السنوات الماضية، يتذكّر جيدًا صوت “أبو علي”، بائع الكعك، وهو يجول في منطقة القبة، ويستقرّ أمام الجامعة اللبنانية، مناديًا “خمسميّة كعك بجبن”.
ومن يعرف هذه المدينة، يتذكر أيضًا وأيضًا صوت الرجل النحيل وهو ينادي “كعك.. كعك”، وينادي مثله كثيرون من البائعين الذين يجولون المناطق والأحياء الشعبية..
لهؤلاء الرجال، أبناء، لم يرموهم في الطرقات. لم يضعوهم على أبواب السياسيين “زقّيفة”. بل عوضًا عن ذلك بحثوا لهم عن مستقبل، فقضوا العمر وهم يجرّون العربة كي يؤمّنوا لهم من العلم أفضله، ومن الطعام أحسنه، وكي يؤمنوا لهم بالطبع، غدًا أفضل من حاضرهم…
ببساطة بائع الكعك في طرابلس. ليس إرهابيًّا، ولا جاهلًا. ولا مغيّب الوعي. وإنّما مجاهد، لأجل أسرته، وحقّه بالحياة.. وحقّه بالمستقبل.
ولأنّ للكعك ذاكرةً أيضًا.. فإنّ من يعرف طرابلس في السنوات الماضية، يتذكّر جيدًا صوت “أبو علي”، بائع الكعك، وهو يجول في منطقة القبة، ويستقرّ أمام الجامعة اللبنانية، مناديًا “خمسميّة كعك بجبن”
ولأنّ الحالة العونية لا تعرف عن هذه المدينة الحزينة، إلّا القشور، فعلينا أن نخبرهم أنّ طرابلس مليئة بالبسطات. وبائع الكعك ليس إلا النموذج. هناك من يجول كي يبيع القهوة، وهناك من يبيع الحلوى.. وهناك من يبيع الترمس والبليلة والذرة، وهناك من يبيع عصير الليمون والجزر، والسحلب والحليب إلخ… وجميعهم أبناء المدينة، وجميعهم مشاهد وملامح من وجهها الحضاري والجميل. فهذه هي طرابلس البسيطة، الفقيرة، المقاوِمة.. وأبناؤها على صورتها، يقاومون، يجاهدون لأجل قوتهم اليومي، على الرغم من التهميش السياسي.
إقرأ أيضاً: “أبو عربي”.. وطرابلس اليتيمة منذ 40 عاماً
بائع الكعك في طرابلس لم ينتخب هذه الطبقة الفاسدة، فنسبة الامتناع عن التصويت في طرابلس قاربت الـ75%، وبائع الكعك هو أحدهم. هذا البائع جرّ صبيحة الانتخابات عربته كالعادة، وجال على مراكز الانتخابات باع الكعك سريعًا وعاد لأسرته، سعيدًا بالغلّة، ومزهوًّا بنفسه لأنّه لم يشارك بانتخابات لن تفرز إلا الوجوه نفسها.
لكن اليوم ها هو بائع الكعك في السجن، متّهم بالإرهاب، فقط لأنّه كان يتظاهر دفاعًا عن أحلامه بحياة كريمة. لم يقبضوا عليه يشكّل عصابة أو يدعو إلى هدر دم أحد. سحبوهم من بيوتهم، والمحكمة العسكرية تريد تحويلهم إلى أكباش فداء لتطويع رفاقهم وإفهامهم أنّ الثورة ممنوعة في طرابلس… وأنّ تهمة الإرهاب هي الردّ على كلّ ثائر في عاصمة لبنان الثانية.