35 عاماً، ولم يغب اسم “أبو عربي”، أو خليل عكاوي، عن طرابلس عموماً، و “باب التبانة” خصوصاً.
أثناء العبور بين أروقة حزام البؤس في منطقة باب التبانة، تستقبلك الأبنية التي تآكلت أطرافها، و”تخردقت” برصاص جولات الحروب الكثيرة، حتى اختلطت بين الثمانينات وبين رصاصات العقد الفائت.
وبين صور متفرّقة لسياسيين من هنا وهناك، بالتأكيد ستجد صوراً عديدة لـ”أبو عربي”، الذي تصادفه في المنطقة صورةً واسماً، وقسماً.. فأبناء هذه المنطقة، إن أرادوا التأكيد على صدق كلامهم يبادرونك قائلين: “برحمة الشهيد أبو عربي”.
الغريب هو انتقال هذه الذكرى إلى جيل جديد “فتيّ” لم يعايش أبو عربي. لم يعاصره. جيل يشكو بحسرة من غياب القيادة في المنطقة، ويؤكد أنّ أبو عربي لم ولن يتكرّر. وعندما نسأل لماذا هذا اليقين بشخصية مضى على استشهادها قرابة الـ4 عقود، تجيبك جدران باب التبانة المصبوغة بدماء “أبو عربي”، وتصادق على كلامها ذاكرة المدينة المفعمة بهذا الرجل.
هو “البطل”، هكذا يتحدث عنه أبناء المدينة، مسترسلين بالحديث عن “زهده”، وترفّعه عن أيّ مظاهر أو “عنجهيات”.
مسيرة خليل عكاوي بدأت “تحت الضوء” بعد وفاة شقيقه الأكبر علي في سجن القلعة “مسموماً” في العام 1972. علي الذي لقّبته المدينة بـ”روبن هود”، بسبب مساعدته الفقراء، كان أوّل الثائرين. في العام 1968 قاد حركة تمرّد وعصيان في باب التبانة، وشارك في انتفاضة فلّاحي عكّار.
عربي عكاوي، النجل الأكبر للشهيد روى لنا ما بقي عالقاً في ذاكرته من تلك السنوات، وحدّثنا عن مآثره ومآثر عمّه، الذي عمد في إحدى المرات إلى اقتحام المستوصف وأخذ اللقاحات كي يوزعها على الناس مجاناً.
ومن عمّه ينتقل عربي (44 عاماً) إلى والده الشهيد، الذي كان متطرّفاً في يساريته. إذ كان يسارياً متاثراً بالأفكار الماوية.
بين صور متفرّقة لسياسيين من هنا وهناك، بالتأكيد ستجد صوراً عديدة لـ”أبو عربي”، الذي تصادفه في المنطقة صورةً واسماً، وقسماً.. فأبناء هذه المنطقة، إن أرادوا التأكيد على صدق كلامهم يبادرونك قائلين: “برحمة الشهيد أبو عربي”
أبو عربي الذي تعود جذوره العائلية إلى فلسطين، وتحديداً إلى عكا، ولد في باب التبانة – طرابلس في العام 1955. كان قومياً، عربياً، مؤمناً بالقضية الفلسطينية، ومقرّباً من حركة فتح ومن الرئيس الراحل ياسر عرفات.
الشاب “الشيوعي الهوى”، كان مقاوماً في الجنوب قبل أن يسطع اسمه في باب التبانة، فيحدثنا نجله، عن إصابة تعرّض لها أثناء قتاله العدو الإسرائيلي جنوب لبنان.
بعد دخول الجيش السوري إلى لبنان في العام 1976، بدأ الصراع الفلسطيني – السوري، وكان “ابو عربي” منحازاً إلى القضية الفلسطينية، رافضاً للهيمنة السورية ولدخول الجيش السوري إلى باب التبانة.
من “الشيوعية” إلى “حركة التوحيد”
“أبو عربي”، الذي أسس في نهاية السبعينات، “المقاومة الشعبية” في باب التبانة، وكان إلى جانبه كل من بلال مطر، عزيز علوش، محمود الأسود، خضر ملص، فايز العموري، سمير الحسن، أحمد النعماني الخ… بدأ في الثمانينات يتأثر بالفكر الإسلامي الذي أنتجته الثورة الخمينية، مثله، مثل كثيرين في بيئة اليسار اللبناني خلال تلك المرحلة.
في حينها حلّ أبو عربي “المقاومة الشعبية”، لصالح “حركة التوحيد” التي بدأت صعودها، وكان يرأسها الشيخ سعيد شعبان، وفق ما يروي عربي عكاوي لـ”أساس”.
“حركة التوحيد” في تلك المرحلة ضمت العديد من القيادات، فعمد كل من كنعان ناجي وعصمت مراد إلى تجميد حركتي “جند الله” و”حركة لبنان العربي”، والانضمام إلى صفوفها.
لم يكن “أبو عربي”، متكلّفاً، كان فخوراً بفرن والده الخبّاز، ومتمسكاً بمنزل العائلة الكامن فوق الفرن في منطقة باب التبانة. في تلك المرحلة سأله أحد الذين كان يتردّدون عليه، لماذا يسكن في منزله المتواضع، ولا يساوي نفسه بالشيخ سعيد شعبان، فكان الجواب: “هيداك الشيخ سعيد”.
الشاب “الشيوعي الهوى”، كان مقاوماً في الجنوب قبل أن يسطع اسمه في باب التبانة، فيحدثنا نجله، عن إصابة تعرّض لها أثناء قتاله العدو الإسرائيلي جنوب لبنان
زهد “أبو عربي”، يؤكد عليه نجله، الذي يجمع صوراً في ذاكرته، كان خلالها يرافق والده للعب كرة القدم، أو إلى البحر. ويخبرنا عربي، عندما تعرّض والده لإصابة بسيطة في الرأس، ونقله الرفاق إلى المستوصف لتلقي العلاج، في حينها رفض أن يتقدّم على أحد من المنتظرين وبقي منتظراً دوره. كذلك يحدثنا عن رفضه هدية عبارة عن “مكيّفات”، في وقت كان منزلهم الكامن فوق الفرن شديد الحرارة صيفاً.
تواضع أبو عربي امتدّ إلى هندامه، فكان يتنقّل في سيارات متواضعه لا يمكلها هو. كان ببساطة ابن المدينة، ابن “باب التبانة” التي يدافع عنها ويشبهها.
إقرأ أيضاً: باب التبانة (2/2): من يسدّ حاجات الناس.. يستغلّها
“لن يدخلوا باب التبانة إلا على جثتي”
بعد اندلاع ما عرف بـ”حرب أبي عمار”، وتراجع الحضور الفلسطيني في طرابلس، ظلّ “أبو عربي” مناهضاً للوجود السوري ورافضاً دخول الجيش السوري إلى منطقة باب التبانة: “ما بيدخلوا باب التبانة إلاّ على جثتي”، هي العبارة التي كان يردّدها وما تزال عالقة في ذاكرة نجله.
وهكذا كان. في 9 شباط 1986 اغتيل أبو عربي برصاصة عقب لقاء “ساخن” جمعه إلى وزير الداخلية السوري الأسبق المقدّم محمد الشعار في منطقة أبي سمرا. ووفق معاصريه، فإنّ الشعار طلب حينها دخول الجيش السوري إلى “باب التبانة” وهذا ما رفضه أبو عربي بحزم، فاغتيل في اليوم نفسه، عقب مغادرته الاجتماع، وتحديداً في منطقة باب الحديد حيث أعدّ له كمين أرداه شهيداً برصاصة واحدة.
أزمة “أبو عربي”مع النظام السوري وفق ما يصفها ابنه، هي أزمة “عبثية” هذا النظام، الذي كان عليه أن يقاتل في الأراضي المحتلة لا في لبنان.
خليل عكاوي، الذي استشهد شاباً، ترك 4 أولاد، أكبرهم عربي الذي كان عمره تسعة أعوام فقط. غير أنّه ترك في المقابل أثراً ما زال متجذراً في منطقته خصوصاً، وفي كلّ طرابلس.
لم تشهد “باب التبانة” قيادة ميدانية بعد “أبو عربي”. هذا ما يؤكد عليه نجله وعدد كبير من أهالي المنطقة: “لو كان هناك قيادات لمّا كانت المدينة مستباحة اليوم كي تكون صديق بريد. ولو كان الشهيد موجوداً لتخطينا الكثير من الويلات. فأبو عربي كان يبدأ المعركة بكلمة، ويوقفها بكلمة”.
“فترة القبضايات”
يعيدنا الناشط السياسي الطرابلسي الدكتور خلدون الشريف في حديثنا عن “أبو عربي”، إلى مرحلة الخمسينيات (1958)، وثورة كميل شمعون، و”القبضايات” و”قادة الرأي” و “قادة الشارع” الذين ظهروا في طرابلس في تلك المرحلة، وكانوا يطالبون بالحقّ ويناضلون من أجله.
أزمة “أبو عربي”مع النظام السوري وفق ما يصفها ابنه، هي أزمة “عبثية” هذا النظام، الذي كان عليه أن يقاتل في الأراضي المحتلة لا في لبنان
يتذكّر الشريف في حديثه لـ”أساس” الكاريزما التي كانت محاطة بخليل عكاوي وشقيقه علي في “باب التبانة”، فخليل الذي كان مؤيداً للقضية الفلسطينية مع كوكبة من رفاقه، لم يكن فقط يتمتع بالسمة القيادية، بل كان يبرز الآخرين، أيّ يحيط نفسه أيضاً بمجموعات كلّ منها لها قائد.
وفق الشريف، باغتيال عكاوي، طويت مرحلة في طرابلس، وهي مرحلة الحضور الفلسطيني، لمصلحة الحضور السوري (أيّ النظام). ولا ينكر الدكتور الذي غاص وما يزال يغوص في تاريخ طرابلس وحاضرها ومستقبلها، أنّ آخر قائد طرابلسي استشهد في باب التبانة هو خليل عكاوي، وأنّ باب التبانة اليوم هي عبارة عن حزام بؤس يضم الكثير من الوافدين من أهل الشمال، أما الحضور الطرابلسي فيها فبات نادراً.
إقرأ أيضاً: باب التبانة (1/2): باب الذهب والأمان الذي احتلّه الفقر
“غياب القيادة والمؤامرة على طرابلس”
لم يجتمع القيادي الطرابلسي توفيق سلطان كثيراً بـ”أبو عربي”، ففي تلك المرحلة كان معظم وقته خارج طرابلس. يتذكر سلطان، في دردشة مع “أساس”، شقيقه علي عكاوي الذي كان في سجن القلعة: “كنت أؤمّن له احتياجاته في السجن، وبعث لي عدداً من الرسائل، لكنّها لم تعد موجودة”، أما عن الشهيد خليل عكاوي فتأخذه ذاكرته إلى يوم أرادت “حركة التوحيد” دخول منزله في فترة غيابه. حينها منعهم “أبو عربي” وقال لهم: “هيدا بيت توفيق سلطان”.
“كان ودوداً معي”، يقول توفيق سلطان، معتبراً أنّ “باب التبانة” مهملة، منذ دخلها السوريين إلى اليوم.
إلى ذلك يبتسم سلطان عند سؤاله عن وضع طرابلس حالياً وغياب القيادة، وصولاً إلى حرق البلدية، الذي يصفه بأنّه ليس التخريب الأوّل في هذه المدينة: “كلّ مرافق طرابلس مدمّرة. هناك مؤامرة لإلباس طرابلس ثوباً تنكرياً واستخدامها في مشاريع معيّنة. القصة ليست قصة باب التبانة، هي قصة مدينة بأكمها. هناك تقصير من الدولة وهناك عدم وعي من الناس الذي يعرقلون الكثير من المشاريع دون دراية. ببساطة هناك أزمة ثقافة مدنية”.
هي مدينة يتيمة، مثل عربي، منذ 40 عاماً.