يتحدّد تحليل وظيفة الشّتيمة في موقع مطلقها. أن تكون سائق سيارة أجرة وسط زحمة سير خانقة ولا مفرّ أمامك من القيادة على طرقات متهالكة تنتشر فيها الحفروتشتم، فهذا يعني شيئاً على صلة بواقعك وموقعك.
لكن أن تكون طوال حياتك في مواقع سلطويّة وتتدرّج فيها حتى تحتلّ موقع الرّئاسة الأولى في البلاد، ولا تخرج الملامح الصّانعة لصورتك في الذاكرة عن سيل الشّتائم الّذي لا تكفّ عن إطلاقه في وجه الإعلام والخصوم وكلّ من لا يوافقك الرّأي، فهذا يدلّ على شيء مغاير تماماً.
يطلق السّائق شتائمه للتّعبير عن العجز وقلّة الحيلة ورفض الواقع القائم، وبذلك فإنّه يخاطب السّلطة ويحاول مواجهة عدم توازن القوى بينه وبينها بتسفيهها وعدم احترامها.
التّقليل من شأن السّلطات، طالما بقي فرديًّا ولم يتبلور في حقل جماعيّ وسياسيّ، أو يتحوّل إلى نشاط عام، فإنّه يشير إلى تقدير منخفض للذّات، وإلى حالة من اليأس والشّعور بعدم القدرة على التّغيير.
شتائم الرئيس عون الأخيرة، أو تلك التي أطلقها في سلسلة مواقف علنيّة شهيرة، كان فيها دائمًا في مواقع قياديّة، لا تبدو مفهومة قياسًا إلى واقعه ومكانته وسلطاته.
الرّجل لم يكن يومًا في حالة من الهشاشة وانعدام المكانة تستوجب التّخفيف من أثر المشاعر السّلبية بالركون إلى التنفيس بالشتائم، بل كان غالبًا في موقع القدرة على التّأثير.
التّقليل من شأن السّلطات، طالما بقي فرديًّا ولم يتبلور في حقل جماعيّ وسياسيّ، أو يتحوّل إلى نشاط عام، فإنّه يشير إلى تقدير منخفض للذّات، وإلى حالة من اليأس والشّعور بعدم القدرة على التّغيير
أمام تاريخ شتائم “بي الكلّ”، لا بد من الكشف عن الموقع الذي يجد نفسه فيه والذي يجعل الشّتيمة خطابًا رسميًّا للتعامل مع الشّأن العام.
المشكلة الأساسيّة لدى الرئيس عون تتمركز في نوع السّلطة المطلوبة، فهو لا يقبل إلا أن تكون مطلقة وشاملة ومتجانسة، تنطلق من شخصه وترتبط به، وتشكّل معنى حضوره ودلالته.
لم يسبق أن وجد مثل هذا النوع من السلطة بشكل واقعي، لكنّ وهم امتلاكه كان على مدى التاريخ صانعًا لأعتى الديكتاتوريّات والشّخصيات الشّمولية.
ما إن يحتلّ شخص يسكنه مثل هذا الوهم موقعًا قياديًّا، حتّى يصبح التّخاطب الصّانع للسّياسة والشّأن العام مستحيلًا، لأن أيّ تحاور يفترض الحدّ الأدنى من المعايير المشتركة. لكنّ الخطاب الذي يتأسّس على وهم النّطق باسم السّلطة المطلقة لا ينتمي إلى عالم التّبادل والتّفاهم والتّواصل، بل ينتمي إلى عالم مرضيّ من عوالم جنون العظمة وتأليه الذّات.
المجالات العديدة التي طالتها شتائم الرّئيس تشمل الشّعب والإعلام والخصوم.
يذكر الجميع شتائمه الشّهيرة ضدّ جريدة “النهار” واتهامها بالكذب، وبأنّها “عرقانة قدّ ما قصّرت” وغير ذلك من الأوصاف النّابية.
في هذه التهمة الكلاسيكية يرى الزّعيم أنّ الإعلام يكذب ولا يقوم بدوره… ولكن ما هو الدور الّذي يُراد للإعلام أن يقوم به؟
لم يسبق أن وجد مثل هذا النوع من السلطة بشكل واقعي، لكنّ وهم امتلاكه كان على مدى التاريخ صانعًا لأعتى الديكتاتوريّات والشّخصيات الشّمولية
في الحقيقة لا يخرج دور الإعلام في نظر أي منظومة شمولية، سواء كانت متمركزة في شخص أو تيّار، عن أن يكون بلا دور على الإطلاق، وأن يركن إلى الصّمت أو أن ينتحر بالتّحوّل إلى مدّاح لمشاريع الزّعيم أو التّيار.
الإعلام المنشود هو الإعلام الذي صار جثّة.
في التّخاطب مع الخصوم تبرز آليّة التّحقير وتوظيف البنى الذكورية، وأبرز تعبير عنها كان مع استخدامه عبارة “الشعب الطزّ” في وصف كل من يرفض منح صهره المنصب الذي يريده، وكذلك في وصفه الرّئيس الأسبق للجمهورية أمين الجميل: “لا إنتا ولا كل شي شايف حالك فيه بتوصلو لتحت زنّاري”.
سبق للرّئيس عون أن اشتهر بمخاطبة الجماهير بعبارة: “يا شعب لبنان العظيم”. لكنّ هذا الشّعب يتحوّل إلى “الشّعب الطز” في حال لم يستجب بسياسييه وناسه إلى أوامره ونواهيه.
وبذلك كان يؤسّس للحقّ في امتلاك الصفات وإطلاقها، وكأنّ الشّعب اللّبناني لا يكون موجوداً إلا من خلال ما يسبغه عليه من أوصاف وسمات.
إنّه لا يخاطبه فعليًّا بل يخلقه في كلّ مرّة على هيئة جديدة، تناسب الوظيفة التي يريد له أن يلعبها، فتارة يكون عظيماً، ويتحوّل تارة أخرى إلى “طزّ”.
سبق للرّئيس عون أن اشتهر بمخاطبة الجماهير بعبارة: “يا شعب لبنان العظيم”. لكنّ هذا الشّعب يتحوّل إلى “الشّعب الطز” في حال لم يستجب بسياسييه وناسه إلى أوامره ونواهيه
من هنا يمكن النّظر إلى ما أسّسته ثورة 17 تشرين في أنّها أخرجت الشّتيمة من المجال الفردي إلى العام، وغيّرت دلالتها من التّعبير عن اليأس والتّقدير المنخفض للذات إلى حالة من توكيد للذات يتبلور في بنية احتجاجيّة تسعى لامتلاك الحقّ في إطلاق الصفات وتكريسها واحتقار السلطات وشتمها، واستعادة الحقّ في امتلاك الوجود والصفات.
إقرأ أيضاً: نقاش مع فيديو “المرأة – البقلاوة” و”الرجل – الخطر”
لا يمكن الإحاطة بالمعجم الشّتائمي الخاصّ بفخامة الرّئيس لأنّ ذلك يتطلب جهدّا بحثيًا جماعيًا، لكن ما يمكن استنتاجه ينطلق من أنّ تلك اللّغة أسّست لشرعية تخاطب ينسف العلاقة بين الإعلام والنّاس.
لم يكن من الممكن أن يهجو الإعلام الشعب بسبب ما يراه تعاملاً خاطئاً مع أزمة انتشار فيروس الكورونا، واصفاً إيّاه بالـ”بلا مخ”، ما لم يكن مستندًا على شرعية تخاطب مستمدّة من صاحب المنصب الأبرز في البلاد.
كذلك لم يكن ممكناً للسّلطة المتهالكة أن تعمد، على ألسنة الكثير من أقطابها، إلى شتم النّاس وتحميلهم مسؤولية ما آلت إليه الأمور في البلاد بشكل يتجلّى فيه التعالي والازدراء، لو لم يتكرّس معجم الجنرال الشّتائمي التّبخيسيّ، ويحلّ في قلب الخطاب العام كشكل نهائيّ للعلاقة بين السّلطة والشّعب.