لا يعدنا ما بلغه اليمين الإسرائيلي بغير التصعيد. صحيح أنّ صعوده نتاج “ديمقراطي” إسرائيلي، لكنّ يهوديّته أكثر صحّة وصواباً. يُفصح نجاحه “المُذهل” عن حقائق مُخيفة في المجتمع العبريّ ومدى تشدّده وعنصريّته، وفي الأساس مدى معاداته للعرب. هذان النجاح والتفوّق يضعان العرب أمام اختبار صعب جدّاً. الحكّام في تل أبيب من أصحاب التصعيد والتهجير والعنف. وهذا امتحان ليس بجديد. سبق أن خيض بكثير من المرارة: كلّما تقدّم العرب خطوة نحو السلام يحدث أن يُجبهوا بمزيد من العنف التوراتيّ. تاريخ الإخفاقات والخيبات مع هذا العدوّ عميق ومرير.
من شارون إلى نتانياهو
لئن صحّ أنّ إسرائيل تقف على باب تثوير دينيّ يقوده يمين ثلاثيّ التكوين، مؤلّف من بنيامين نتانياهو، إيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش، يبقى أنّ ما ينتظر المحيط العربي على وجه الخصوص مقلق، ولا يبعث على الارتياب فقط، بقدر ما يبثّ المخاوف من الهوَس الديني. تبدأ بشاعة المشهد الإسرائيلي من لحظة إناطة الحكم ببنيامين نتانياهو عبر الانتخابات. في خطاب تكليفه نهض وصافح الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، قائلاً: “الشعب اتّخذ قراراً واضحاً لصالح تشكيل حكومة برئاستي”. يقول إعلان نتانياهو إنّ إسرائيل اختارت اليمين ردّاً على كلّ ما تراكم مع العرب. وأهمّ ما تحقّق كان في اتفاقات أبراهام، حين طبّعت 4 دول عربية مع إسرائيل، قبل الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، هي دولة الإمارات العربية المتحدة، والبحرين، والمغرب والسودان).
ما يزيد من الارتياب المشروع هو أنّ الكاتب الأميركي توماس فريدمان اعتبر أنّ وصول “هذا اليمين” إلى السلطة بمنزلة “نهاية إسرائيل التي عرفناها وأصبحت تحت حكم تحالف من القادة الأرثوذكس المتشدّدين والسياسيين القوميين المتطرّفين ومتطرّفين يهود عنصريّين معادين للعرب”.
لم تترك إسرائيل شيئاً إلّا وفعلته ضدّ كلّ “مبادرة عربية” للسلام. تاريخها يضجُّ بالعدائية للعرب. المُريب هو سكوتها عن الإسلام السياسي. هذا السكوت تجلّت أبشع صوره في الصمت الرهيب عن صعود “حماس” ضدّاً لـ”أبي عمّار”
لماذا هذا القلق؟
السؤال لفريدمان نصيرِ إسرائيل التاريخيّ. الباعث على القلق هو أنّ نتانياهو وشركاءه يقفون على العكس من ضبط النفس. أربعة من قادة الأحزاب الخمسة في الحكومة الائتلافية (نتانياهو، أرييه أدرعي، بتسلئيل وبن غفير) إمّا تمّ اعتقالهم أو إدانتهم أو سجنهم بتهم الفساد أو التحريض على العنصرية. تركيبة كهذه لا تبعث إلا على الهواجس والتحسّب.
إذا كان هذا كلام فريدمان، فما الذي ينتظره العرب؟ وما هي وجهة القضية الفلسطينية؟ وبماذا تعدنا إسرائيل مع ثلاثيّ اليمين هذا، فيما يسكت الغرب كلّه وكأنّه لا يملك جدوى من تحرّك ما؟
لقد جرّبنا آرييل شارون الذي ابتكر “جدار الفصل العنصري” معتقداً أنّ الحلّ هو تقنيّ بحت. اعتقدَ شارون عن خطأ راجح أنّه تخلّص من نضال الشعب الفلسطيني في الدفاع عن حقّه بالعيش وتقرير مصيره. أهمل أنّ الاحتلال على الضدّ من المنطق، ومن الحقّ في الحياة. كلّ ما فعله كان يزيد من وتيرة التصميم الفلسطيني. دفع بالراديكالية الفلسطينية إلى الواجهة، فتماثلت لغة الزعيم ياسر عرفات، المقتول غيلةً وحقداً، مع لغة حركة حماس. آنذاك لم يعد عرفات يجد من يحاوره. وتمّ عزله على طريق اغتياله.
عنصريّة يهوديّة وإسلام سياسيّ
مع يمين كالذي وصل اليوم لن نجد غير غليان المنطقة كلّها في لحظة احتدام شديدة التعقيد. سيزهو “حزب الله” بسرديّته، ومعه حركتا “حماس” و”الجهاد”. كلّهم من الطارئين على الصراع العربي ـ الإسرائيلي ويريدون أسلمته. تسلّل الإسلام السياسي إلى القضية الفلسطينية. الإسلامان “الشيعي” بحزب الله، و”السُنّي” من قطر وتركيا، تسلّلا إليها منذ زمن، علماً أنّه ما من إسلام سياسي صارع إسرائيل.
من كابد القضية هم العرب وعلى أرضهم. كلّ العرب بلا استثناء. العنف سينبعث الآن أو لاحقاً. ارتفاع صوَر أبي عمّار وجورج حبش ومروان البرغوثي مجدّداً يُنبىء بما هو آتٍ. الأكثر إنباءً وإفصاحاً هو ظهور “عرين الأسود” في الضفّة الغربية، وجُلّهم من أبناء من يعملون في السلطة الفلسطينية. يمين كالذي وصل يعني أنّ المُراد هو إبادة الشعب الفلسطيني، أو قُلْ ترحيله عن أرضه. الأمر يختلف عن ترحيل الفلسطينيين كما حصل ذات مرّة في بيروت عام 1982.
لم يجانب المستشرق الإسرائيلي إيلي بوديه الصواب السياسي في معاينته المجتمع الإسرائيلي يوم كتب في عام 2010 أنّ “السلام هو حُلم ربّما، لكنّه ليس حلم الإسرائيليين بالمُطلق”، وأكّد أنّه “حان الوقت للاعتراف بحقيقة أنّ إسرائيل تستخدم خطاب السلام صباح مساء، غير أنّها من الناحية العملية لا تساهم في تحقيقه إلا بشكل ضئيل جدّاً”. هذا يوضح بلا لبس أنّ ما تريده إسرائيل هو “إسرائيل التوراتية”. القدس ليست حاضرة في العقل السياسي الإسرائيلي إلا من مدخل كونها عاصمة يهودية. حتى يائير لابيد لم يتمايز أو يتميّز عن ثلاثي “الصهيونية الدينية” الصاعدة.
لا يعدنا ما بلغه اليمين الإسرائيلي بغير التصعيد. صحيح أنّ صعوده نتاج “ديمقراطي” إسرائيلي، لكنّ يهوديّته أكثر صحّة وصواباً
وأد المبادرات العربيّة
لم تترك إسرائيل شيئاً إلّا وفعلته ضدّ كلّ “مبادرة عربية” للسلام. تاريخها يضجُّ بالعدائية للعرب. المُريب هو سكوتها عن الإسلام السياسي. هذا السكوت تجلّت أبشع صوره في الصمت الرهيب عن صعود “حماس” ضدّاً لـ”أبي عمّار”. كلّ استعادة لِما فعلته تل أبيب على الضدّ من العرب، تقول الكثير. كلّ خطوة عربية نحو السلام تحت شرط حفظ حقّ الشعب الفلسطيني بالوجود، كان الردّ عليها دامياً وعنيفاً. هذا من الواضحات في تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي. دوماً كان الردّ عنيفاً. العنف العاري يتبيّن من قراءة مبادرة وزير الخارجية الأميركي وليام روجرز. حتى أفكار الرئيس الأميركي دونالد ريغان جُوبهت بالقتل. وتطوّر العنف إلى احتلال بيروت العاصمة العربية الثانية بعد القدس، إثر اتفاقية “كامب ديفيد”، التي وقّعها مع إسرائيل الرئيس المصري أنور السادات في 1978، وردّ عليها “الداخل” المصري باغتيال السادات في 1981، ثم ذهب الإسرائيليون إلى اجتياح بيروت في 1982.
الأشدّ فظاظة وجلافة كان في الردّ على “مؤتمر مدريد” القائم على ثنائية: الأرض مقابل السلام، وعلى السلام العادل والشامل. الرهيب كان في الردّ على اتفاقية أوسلو: اغتالت “الصهيونية الدينية” إسحاق رابين في العام 1995، لأنّه وضع يده بيد قائد منظّمة التحرير في 1993.
الأسوأ حصل إثر مبادرة الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز آل سعود التي عُرِفَت بـ”المبادرة العربية للسلام” وأُعلنت في قمّة بيروت في عام 2002. آنذاك كان الجهر الإسرائيلي واضحاً: لا لأيّ مبادرة تحفظ للفلسطينيين أيّ حقّ بالحياة وتقرير المصير. الذريعة هي أنّ هجمات واعتداءات 11 أيلول راحت تُشرّع استباحة دم العرب. ما قيل حينذاك مُخيف جدّاً: لا للانسحاب من أيّ أرضٍ مُحتلّة، ولا يوجد ما يُسمّى احتلالاً لجنوب لبنان وفلسطين والجولان، ولا حقّ للفلسطينيين ببناء دولتهم وعاصمتها القدس وفقاً لحدود 1967 التي نصّ عليها قرار الشرعية الدولية.
آنذاك لم يطُل الوقت حتى جاء الردّ الإسرائيلي العاجل العنيف تؤازره ارتجالات لبنانية وسورية مَثّلها إميل لحود وبشار الأسد في قمّة بيروت. الرجلان ساعدا في حصار ياسر عرفات الذي كان تحت الإقامة الجبرية. وبدلاً من أن يفتتحا القمّة بكلمته، ركّزا همّهما على كيفية إقصائه، وبما يخدم مُرتجى شارون. في حينه ارتكب شارون مجزرة جنين للقضاء على المقاومة الفلسطينية. حصل ذلك وأبو عمّار تحت الحصار قبل أن يتمّ اغتياله. وتلا ذلك حصارٌ رهيب وفتحُ باب الاستيطان على مصراعيه.
هذيان صهيونيّ
قد يكون هذا تاريخاً مضى وانقضى. دعك من ذلك. لنذهب إلى القريب. حتى اتفاقات إبرهام ردّت عليها الدولة العبرية بانزياح هذيانيّ إلى اليمين الصهيوني: نتانياهو على رأس الحكم بصلاحيّات غير مسبوقة لـ”سموتريتش” وأخرى لـ”بن غفير” في الأمن الداخلي.
إقرأ أيضاً: حماس لـ”رفيق صفقاتها” نتانياهو: تبادل أسرى الآن..
ما حدث في إسرائيل هو نوع من الجنون. الاستقرار صار “على قلقٍ”. ينبغي للغرب أن يتنبّه منذ الآن إلى أحوال المنطقة:
ـ الأردُن فيه غالبية فلسطينية.
ـ لبنان مُثقل بالصواريخ وتغمره صوَر الأمين العام لـ “حزب الله” السيّد حسن نصر الله.
ـ مصر تمرّ في أشدّ أوقاتها حراجةً، وقد لا تمتلك ترف تشكيل لجان استخبارية لضبط الجبهات.
ـ صوَر صدّام والفيديوهات عنه عادت تُبثّ كثيفاً عبر وسائل التواصل.
ـ المشاعر اللاسامية صارت طاغيةً.
ـ الفلسطينيون يتحوّلون إلى انتحاريين ويقاتلون بالعراء.
من دون التنبّه إلى هذا كلّه، هناك القبول سلفاً بجحيمٍ لن يبقي ولن يذر. وفي الأثناء المنطقة أمام أسئلة بلا أجوبة.