قَلَب المنتخب المغربي “التراند” الذي كان سائداً في المونديالات. فبعدما كانت عدسات الكاميرا تلاحق الجميلات الفاتنات الكواعب “القشلميش” من المشاهير صديقات اللاعبين، تحوّلت نحو الأمّهات… وليس أيّ أمّهات، وإنّما أمّهات لاعبي المنتخب المغربي.
في المونديالات السابقة كانت الجميلات يحظين باهتمام عدسات الكاميرا التي تلاحق تحرّكاتهنّ وردود أفعالهنّ، قبل بداية أيّ مباراة أو بعد تسجيل أيّ هدف وعند إطلاق صافرة النهاية. جميلات مثل المغنّية الكولومبية ذات الأصول اللبنانية “شاكيرا” (زوجة اللاعب الإسباني جيرالد بيكيه) أو عارضة الأزياء الباراغوانيّة الفاتنة لاريسا ركيلمي، التي خطفت الأضواء على مدى شهر كامل في مونديال جنوب إفريقيا في عام 2010، واشتهرت بوضع هاتفها الخلويّ بين نهديها.
بعدما كانت عدسات الكاميرا تلاحق الجميلات الفاتنات الكواعب “القشلميش” من المشاهير صديقات اللاعبين، تحوّلت نحو الأمّهات
أمّا في المونديال الحالي فانقلبت الآية. الأمّهات يتصدّرن المشهد. أمّهات كبيرات في السنّ، محجّبات، طبعت مآسي الدهر وعلامات الفقر بصماتها على وجوههنّ (الله يرحمك يا إمّي)، يركضن في الملعب الأخضر، ويحتضنّ أبناءهنّ من اللاعبين، بلا خوف ولا خجل، ويرقصن معهم فرحاً واحتفاءً بالانتصارات ضدّ أعرق المنتخبات الأوروبية.
كان النجم المغربي أشرف حكيمي يركض إلى المدرّجات لملاقاة أمّه، يحتضنها ويقبّل رأسها بفخر في مشهد لم نَرَه في أيّ مونديال من قبل. أمّه التي كانت تعمل في البيوت وتحدّت الصعاب على الرغم من الفقر. يقول حكيمي إنّ والدته ساعدته على تحقيق حلمه ليكون أفضل لاعب في البلاد. هي الداعم الأوّل له ولا يخجل من كونها عملت خادمةً للتمكّن من تربيته.
أمّا اللاعب سفيان بوفال فكان يفعل الأمر نفسه في كلّ مباراة. بعد نهاية مباراة المغرب ضدّ كندا، قفز سفيان إلى المدرّجات وأهدى أمّه قميصه الأحمر… وكأنه يقول لها: أنتِ البطلة يا أمّي. أمّه التي ظهرت في أغلب الصور وفي مقاطع فيديو التُقطت لها وهي تقبّل رأسه وتدعو له بالتوفيق (رضى قلبي وربّي)، بينما هو يمسك بيديها ويدوران معاً بفرح، قبل أن يقوم بمعانقتها، ثمّ يتوجّهان إلى الجمهور لإلقاء التحيّة… وكأنّه يقول لمليار إنسان في العالم يشاهدون المباراة: “السِتّ ديه أمّي… ما شالتش غير همّي”.
اللاعب وليد الركراكي لم يَحِد عن تلك الظاهرة الجميلة أيضاً، التي باتت “لازمة” بعد نهاية كلّ مباراة للمنتخب العربي الوحيد الذي وصل إلى النصف النهائي في تلك المسابقة العالمية. هو الآخر صعد إلى مدرّجات “استاد المدينة التعليمية” بعد نهاية المباراة مع إسبانيا، وطبع قُبلة على جبين والدته، التي قالت للقناة المغربية: “أعيش في فرنسا منذ 50 عاماً، وهذه المرّة الأولى التي أترك فيها باريس من أجل ابني ومونديال قطر”… ومَن هو الأغلى من الضنى؟
تلك المشهدية تركت أثراً كبيراً بين الناس وفي الرأي العامّ العالمي، وأثارت اهتمام أغلب المواقع والصحف الغربية والرياضية. الدفء العائلي و”حنان الأمّ” أرخيا بظلالهما على المشهدية القطرية، وأعادت الرأي العام الغربي إلى ثقافة اندثرت منذ عقود وفقدها خلال البحث عن الحداثة والتمدّن.
نسي لاعبون غربيون أمّهاتهم لسنوات طويلة من أجل صديقاتهم وخليلاتهم اللواتي كنّ يحضرن إلى الملاعب في مختلف أنحاء العالم للتشجيع والهتاف. ذهب “التراند” العالمي أبعد من ذلك بكثير، فصارت بعض المنتخبات تدعم “المثليّة” وتهلّل لها وتسوّق لشعاراتها على حساب تلك الروابط المقدّسة.
جاء الردّ على صنّاع الرأي العامّ العالمي من المنتخب المغربي بشكل عفوي جميل لا يستفزّ أحد، بل على العكس يردّ الجميع إلى طفولته وحنان أمّه ونعومة الأظافر.
إقرأ أيضاً: مونديال العرب: نافذة على شعوبٍ وألوانٍ ولغاتٍ وأزياء
الردّ المغربي Soft في الشكل، لكنّه عميق وHard جدّاً في المضمون، استطاع أن يعيد عقارب الساعة إلى الخلف، بل أن يقلب أوراق الروزنامة لعقود ويقول: “العائلة أوّلاً” أو “الدنيا أمّ”، واضعاً تلك الروابط في مقدَّم الاهتمامات، وهي الروابط التي لا تزال أحلى ما في ثقافتنا العربية، على جميع عللها وإخفاقاتها.
لمتابعة الكاتب على تويتر: abo_zouheir@