كانت معكم شيرين أبوعاقلة

مدة القراءة 3 د

لم أكن أتخيّل أن يكون مستوى الاستهداف هكذا للصوت والصورة والحكي والكلام والأخبار والميكروفون. لم أكن أتخيّل أن تكون هذه الأمور أقوى كثيراً من الرصاص أو حتى الحجارة التي رفعها الأطفال في انتفاضة الثمانينيّات. لم أكن أتخيّل أن يكون إسكات صوتٍ هو الضرورة والهدف الذى يسعى إليه كيان بكامله.

بالنسبة لي ما حدث أمس في جنين الفلسطينية من اغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة كارثة إنسانية، تضاهي كلّ الكوارث التي تعانيها الشعوب. نعم، أعلم تماماً أنّها ليست الحادثة الأولى، وأعلم أنّها لن تكون الأخيرة، لكن مثلما كانوا يقولون فإنّ موت راوٍ شعبيّ يساوي موت أمّة، فموت صحافي بهذه الطريقة هو موت للإنسانية والحقّ في الوصول إلى المعلومة والخبر والفكرة.

لا أعرف شيرين أبو عاقلة عن قرب، ولا أعرف أفكارها أو ميولها أو حتى ديانتها التي تحوّلت بقدرة قادر بالأمس إلى مدار حديث يختلف فيه المختلفون على إمكانية الترحّم عليها أو عدمه. لا أعرف شيرين عن قرب، ولو كنت أعرفها لكنت نصحتها أن تتوخّى الحيطة والحذر مع أُناس يسهل عندهم القتل.

أعرف شيرين المراسلة التي رأيناها جميعاً على شاشة قناة “الجزيرة” أثناء انتفاضة الدرّة في بداية الألفيّة الثانية. كانت فتاة لم تبلغ الثلاثين من عمرها. اختارت أن تعيش على حافة النار، بين الرصاص والقنابل، بدلاً من حياة الفتيات فى سنّها. اختارت أن تكون أمام الشاشات تنقل الصورة مهما كلّفها من مشقّة. اختارت أن تؤدّي عملها على أكمل وجه.

نختلف مع قناة “الجزيرة”، وسياساتها، هذا أمر لا مزايدة فيه، لكن لا نختلف مع الإنسانية، ولا نختلف مع حقّ العالم في المعرفة. لا نختلف مع ضرورة أن يمارس الصحافي عمله في ظروف آمنة، ولا مع ضرورة تدخّل الهيئات والمؤسسات الدولية الكبرى في ذلك. نختلف مع “الجزيرة” ولا نختلف مع شيرين أبوعاقلة، السيّدة التي دفعت حياتها ثمناً لعملها.

إقرأ أيضاً: شيرين أبو عاقلة… هنيئاً لكِ العروج والحياة وكلّنا أموات!

“كانت معكم شيرين أبوعاقلة”، وارتقت إلى السماء، هذه حقيقة. رحلت شيرين، ويجب أن يكون في رحيلها عبرة وفرصة للتحرّك، أفراداً ومؤسّسات إعلامية وغير إعلامية، من أجل فتح تحقيق عاجل في اغتيالها يكون تحت إشراف جهات دولية مشهود لها بالنزاهة، على أن تُعلن نتائجه إلى العالم، وتتمّ معاقبة المسؤولين، وأن تؤخذ ضمانات أكثر تحفظ حرّيّة عمل الإعلاميين والصحافيين، وحقّهم في نقل الصورة الكاملة لحقيقة الأوضاع على الأرض.

 

*نقلاً عن المصري اليوم

مواضيع ذات صلة

وحدة “العبر الاستراتيجية” بين “الحزب” و”حماس”

استراتيجية واحدة في لبنان كما في غزّة، بما يوحي أن لا انفكاك بينهما، وهي “المماطلة والانتظار”، لعلّ الفرج يأتي في قابل الأيّام أو الأشهر. وفي…

الآليّة عقدة الطّربوش في التّفاوض مع إسرائيل

ما خلا “الحزب”، لا أحد من الأفرقاء اللبنانيّين يمانع التفاوض مع إسرائيل، انسجاماً مع المبرّر الذي ساقه رئيس الجمهوريّة جوزف عون من أن لا خيار…

من وطن الرّسالة إلى الدّولة الفاشلة: كيف انهار النموذج اللّبنانيّ؟

كيف سقط لبنان من قمّة النموذج إلى قاع الفشل؟ هل كان محكوماً حتماً بهذا المصير؟ كيف انقلب وطن الرسالة إلى دولة التخبّط والعجز؟   واصل…

لبنان مُعضلة الشّرق: هل تهبّ عاصفة ترامب؟

يجد لبنان نفسه بعد اتّفاق غزّة أمام تحدّيات جمّة تتمثّل بشكل رئيس في السباق بين الجهود الدبلوماسيّة والتصعيد العسكريّ على نطاق أوسع، وسط مؤشّرات متزايدة…