“أنت لا تعلم حجم ما لا تعلم” (كيسنجر)

مدة القراءة 5 د

في ربيع 1982، في العاصمة الأميركية واشنطن، سمعت أهمّ جملة أسّست لطريقة تفكيري.

?كانت العبارة من وزير الخارجية الأميركي الأسبق، والمفكّر الاستراتيجي الفذّ هنري كيسنجر.

?قال كيسنجر بالإنكليزية جملة ممزوجة بلكنة المانية you don’t know how much you don’t know، ومعناها التقريبي: “أنت لا تعلم حجم ما لا تعرفه”، أو “أنت تجهل حجم ما تجهله”.

?بالنسبة لي كانت هذه العبارة رادعاً لي كلّما أصابتني حالة إعجاب كاذب بالنفس أو تمسّك أحمق بفكرة أو محاولة تلفيق الحقائق لإثبات صواب رأي أتمسّك به.

?وها هو كيسنجر يعود في حياتي السياسية وفي وعي العالم ليفجّر في منتدى دافوس العالمي سلسلة من الآراء والأفكار السياسية التي تؤسّس لرؤية ناضجة غير مؤدلجة تتّسم بالبراغماتية والواقعية السياسية.

رؤية زيلينسكي هي رؤية فنّان يريد أن يصبح بطلاً لرواية الحرب، فيتّخذ مواقف شعبوية ترفع شعارات تصلح لأن تكون عبارات خالدة في تاريخ المسرح العالمي، لكن لا قيمة واقعيّة لها

?قال كيسنجر إنّه “يتعيّن على الغرب والولايات المتحدة التوقّف عن زيادة وتيرة العقوبات المفروضة على روسيا الآن لأنّهم يدفعون موسكو بهذا العمل بقوّة إلى أحضان بكين”.

?وقال كيسنجر إنّه “يتعيّن على أوكرانيا التنازل عن بعض الأراضي لروسيا في أقرب مفاوضات سياسية مقبلة، وإلا فإنّ نتائج الحرب الروسية-الأوكرانية ستكون مدمّرة للجميع”.

?آراء كيسنجر هذه هي تعبير صادق وأمين يتّسق تماماً مع تجربته ودراسته وأطروحته ومؤلّفاته ومسار حياته التنفيذية كمستشار أمن قومي ووزير خارجية.

? هذه الأفكار هي ترجمة عملية لمنهج فكر كيسنجر المعروف بـ”Real Politic” أي “السياسة الواقعية”.

الـ”ريل بوليتيك” هي فلسفة الواقعية والبراغماتية ومقايضة المصالح بين أصحاب المصالح تجنّباً لمزيد من الخسائر، وتجنّباً لضياع العالم، كما جاء في كتبه “الدبلوماسية” و”على الصين” و”استعادة العالم” ومقال “تدريس المنطق السليم لبرنامج الاستراتيجية الكبرى”.

?يخشى كيسنجر أن تؤدّي إساءة إدارة السياسة إلى حدوث انفلات في السيطرة على السلاح النووي يدفع العالم إلى حرب نووية مدمّرة.

?بهذا المنطق نعتقد أنّ الرجل أراد من الرئيسين الأوكراني والروسي تجنيب العالم حرباً نوويّة هي في الحقيقة صراع بين الغرب والشرق.

 

“الفنان” زيلينسكي

بالمقابل يأتي الرئيس الأوكراني من منطق ومنهج ورؤية سياسية مضادّة تماماً لهنري كيسنجر.

رؤية زيلينسكي هي رؤية فنّان يريد أن يصبح بطلاً لرواية الحرب، فيتّخذ مواقف شعبوية ترفع شعارات تصلح لأن تكون عبارات خالدة في تاريخ المسرح العالمي، لكن لا قيمة واقعيّة لها في مسرح العمليات العسكرية، ولا تؤدّي إلى نتائج حقيقية على طاولة المفاوضات السياسية.

?وصف زيلينسكي تصريحات كيسنجر بأنّها “لرجل ما زال يعيش في عالم ما بعد 1938 (كيسنجر مواليد 1923)”.

?وقال الرئيس الأوكراني إنّ دعوة كيسنجر تبدو وكأنّها “مطالبة العالم بالتفاوض مع النازية أثناء الحرب العالمية الثانية”.

?وقال إنّ “هذه الأراضي التي يطالبنا كيسنجر بالتنازل عنها يعيش عليها ملايين من البشر”.

?جدل كيسنجر-زيلينسكي هو نموذج لصراع قديم بين “الشعبوية الانتهازية” التي لا تؤدّي إلى إنجاز واقعي، وبين الواقعية السياسية التي تتعامل مع نتائج الواقع بشكل شفّاف وعملي يؤدّي إلى حلول مهما كانت مؤلمة.

هذا الأمر رأيناه عشرات المرّات في عالمنا العربي.

?رأيناه في حرب فلسطين ونتائجها ورفض مشروع التقسيم.

?ورأيناه في الحديث عن “أمّة عربية واحدة من المحيط إلى الخليج”، من دون أن نرفع حواجز دخول الأفراد والبضائع والأموال والأفكار بين العرب وأشقّائهم العرب.

?رأيناه في حرب صدام حسين مع إيران.

?ورأيناه في حديث الخميني عن أنّ الطريق إلى القدس يمر “بقم أو كربلاء”.

?ورأيناه في منطق البعثَيْن العراقي والسوري اللذين يتحدّثان ليل نهار عن الوحدة، ومع ذلك قاما بأكبر عمليات تصفيات وتآمر بعضهما على البعض الآخر.

?رأيناه عندما أعلن الرئيس جمال عبد الناصر إغلاق مضيق تيران وسحب القوات الدولية وتوعّد إسرائيل، فإذا بنا نفقد في ستّة أيام القدس الشريف والضفّة وغزّة والجولان وسيناء.

?رأيناه في جنون نظام إردوغان حينما قرّر إعادة العثمانيين الجدد إلى الحكم واستعادة الولايات التركية القديمة قبل توقيع اتفاقية لوزان.

?رأيناه في جنون المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية ودعوتهم إلى الفوضى الخلّاقة.

? هذا المنهج من التفكير، الذي يجعل الرغبة السياسية أو المصالحة الاستراتيجية وحدها هي الحقيقة ولا شيء غيرها، هو أكبر أكذوبة في حقّ احترام الإنسان للعقل والمنطق والواقع.

نريد شروط المنتصر ونحن في “عزّ دين الهزيمة”!

نريد تقاسم سلطة مع عدم وجود أيّ شعبيّة لنا!

نريد حرّيات عامّة وخاصّة لم نناضل يوماً من أجلها!

نريد انتصاراً متقدّماً لم ندفع دولاراً واحداً مساهمة منّا فيه!

إنّها المسافة العظيمة الساحقة بين العقل الأنكلوساكسوني البراغماتي وبين العقل الشرقي الشعبوي.

أضاعت هذه المسافة كلّ فرص استعادة فلسطين المحتلّة بالحوار، وتسبّبت في ضياع كلّ فرص إيقاف الصراعات في العراق وسوريا وليبيا والسودان والجزائر واليمن وتونس.

هذه المسافة الفاصلة بين العقل والمنطق والواقع، وبين الضلالات السياسية والشعبوية القائمة على دغدغة مشاعر الجماهير من دون مراعاة لحقيقة مصالحهم.

يظهر هذا الأمر مجدّداً في أيّ محاولة لتسوية الحرب في أوكرانيا.

قد يقول لي قائل: وهل ذلك يعني أن يقبل الإنسان بالواقع حتّى لو كان ظالماً وألّا يسعى إلى محاربته ومقاومة الظلم وتحقيق العدالة؟ هل الواقعية تعني الاستسلام؟

لا وألف لا.

كان الفيتناميّون يفاوضون كيسنجر في هانوي فيما يحمون هانوي ويتقدّمون بقوات التحرير نحو سايغون.

إقرأ أيضاً: يا اللي سيرتي تَعْبَاكْ.. قلبك إسود “بَلَاكْ”*

إذا استطعت التغيير وامتنعت عن تحقيقه فتلك خيانة، أمّا إذا كانت لديك شروط المهزوم فعليك أن تفاوض لإيقاف نزف الخسائر حتى لا تتسبّب بخسائر أكبر وتمارس خيانة أعظم!

لعن الله الشعبويّة!

وتذكّر حجم جهلك بالحقائق وحجم إنكارك للواقع.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…