حسناً تُرك التعميم الأساسي رقم 151 للتاريخ لتتحرّر الودائع من هذا التصنيف المجحف – الدولار المحلي. وعجباً تسارعت تجمّعات الدفاع عن أموال المودعين مطالبة مصرف لبنان بتجديد العمل بهذا التعميم! لم يسارع مصرف لبنان إلى تجديد العمل به لأنّه رأى في السحوبات بالليرة اللبنانية على سعر مصطنع (15,000 ليرة) إجحافاً بحقّ المودعين ويجب تصويب ذلك. استبدال التعميم 151 بتعميم أساسي آخر يحمل الرقم 166 صدر عشيّة الثاني من شهر شباط 2024 كان دلالة على أنّ السلطة النقدية مستمرّة في تأمين السحوبات النقدية. مهما كانت النوايا جيّدة وطيّبة، هذا الأداء فيه إجحاف للمودع. تفريغ المصارف من الودائع، وتجفيف حسابات المودعين من أرصدتها هما بمنزلة الموت البطيء للقطاع المصرفي وما سوف ينتج عن ذلك من تداعيات سلبية على الاقتصاد الوطني. إضافة إلى أنّ هذه التعاميم أخذت منحى غير قانوني على الرغم من تحصّنها بقانون النقد والتسليف وغيره من قوانين لأنّها تسلب من المودع حقوقه. المودع هو صاحب الحقّ الاقتصادي للوديعة وتعود له صلاحية تحريك الحساب، لكنّ هذه التعاميم تمنح المصرف هذا الحقّ وتفرض على المودع القبول بما يقدّمه المصرف له!
القطاع المصرفي في عين العاصفة
تركيز السلطة النقدية اليوم يجب أن يكون على تعميم مصرف لبنان الأساسي الذي يحمل الرقم 165، وهو تعميم عودة الودائع إلى المصارف وليس سحبها إلى الخزنات الحديدية في المنازل. إنّه الخيار الأرحم في ظلّ غياب الإرادة لدى مكوّنات الطبقة السياسية لإقرار الإصلاحات والحلول وتنفيذها. على أصحاب القرار المطالبة بالامتثال لأحكام هذا التعميم مع خطوات سريعة مواكبة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي عملاً بأحكام التعميم الأساسي لمصرف لبنان رقم 154 وليس عملاً بأيّ مشروع قانون وُلد من رحم الفساد والفشل المتفشّي.
لا بدّ من حلّ مشكلة المخاطر الائتمانية والخسارة التي نتجت عن التعثّر غير المنظّم في 7 آذار 2020 لحلّ مشكلة الودائع بالدولار المحلّي
الكلّ يعلم بأنّ المخاطر على مختلف أنواعها تستوطن في النشاطات الاستثمارية وتوظيف رؤوس الأموال، وبهذا يكون القطاع المصرفي في عين العاصفة. وهي مخاطر ائتمانية، مخاطر السيولة، مخاطر السوق، مخاطر سوق القطع الأجنبي والتقلّبات بسعر الصرف، مخاطر تبييض الأموال، مخاطر السمعة، والمخاطر السيادية. وهذه فقط بعض المخاطر التي تواجه العمل المصرفي في كلّ بقعة من بقع الأرض. الإفراط في الثقة بالنظام المصرفي اللبناني، من المصرف المركزي والسلطة السياسية التي تقف من خلفه إلى المصارف التجارية، لم يدفعنا يوماً إلى التفكير في المخاطر التي قد تواجهنا في أموالنا إذا أودعناها في المصارف التجارية العاملة في لبنان. الواقع المرّ هو أنّ الودائع المستوطنة في المصارف التجارية اللبنانية والمكوّنة بالعملة الأجنبية قبل 31 تشرين الأول 2019 هي ودائع مُثقلة بمجموعة من المخاطر وخسرت جزءاً كبيراً من قيمتها الحقيقية بغضّ النظر عمّن كان السبب وراء هذا التدهور في قيمة هذه الموجودات المالية (موجودات -Assets – للمودع، ومطلوبات -Liabilities – للمصرف).
يبقى التعميم الأساسي رقم 150 الصادر بتاريخ 9 نيسان 2020 هو التعميم الفصل بين الحسابات بالعملة الأجنبية المثقلة بالمخاطر (أو ما بات يعرف اليوم بالحسابات بالدولار المحلّي – التعميم 166) وغيرها الحرّة والمحرّرة من المخاطر (وهي الحسابات بالدولار الفريش – التعاميم 150 و165). وفرضت تعاميم مصرف لبنان التمييز بين الودائع القديمة والجديدة الفريش!
إعادة الحياة للكيان المصرفي..
لا بدّ من حلّ مشكلة المخاطر الائتمانية والخسارة التي نتجت عن التعثّر غير المنظّم في 7 آذار 2020 لحلّ مشكلة الودائع بالدولار المحلّي. ويكون هذا الحلّ عن طريق تمكين المصارف من امتصاص هذه الخسارة. إعادة الحياة للقطاع المصرفي، وليس بالضرورة لكلّ مصرف، هي الممرّ الإلزامي لذلك. التعميمان الأساسيّان اللذان يحملان الرقمين 150 و165 تمّت صياغتهما في هذا السياق، لكنّهما لا يشكّلان حلّاً سحريّاً، بل إنّهما فقط نقطة انطلاق أساسية لعودة الحياة للكيان المصرفي في لبنان. ومن الضروري أن يواكب هذه الخطوة بعض، وليس كلّ، الإصلاحات الضرورية لكي يستطيع الاقتصاد الوطني أن يحصد إيجابيات هذه الخطوات التي أطلقها مصرف لبنان. من أهمّ الخطوات المطلوبة وبسرعة فرز المصارف بين تلك القادرة على الاستمرار في خدمة الاقتصاد الوطني ودعمها، وغيرها الهالكة ويجب معالجتها إمّا من خلال التصفية أو الدمج والاستحواذ من قبل مصارف أخرى قادرة. ومن أخطر ما قد ينتج عن السلطة التشريعية اليوم التوجّه نحو إعطاء رخص جديدة لمصارف جديدة بودائع جديدة وموجودات محرّرة من كلّ المخاطر التي تعاني منها المصارف التجارية العاملة في لبنان حالياً. في حال وجود مصارف جديدة سوف تتوجّه كلّ مكوّنات القطاع الخاص في الوطن، من أفراد ومؤسّسات، إلى فتح حساباتها وطلب خدماتها المصرفية من هذه المصارف النظيفة. وهذه الانعطافة الخطرة في السياسات و/أو القرارات التي قد تصدر تحت راية “إصلاحية” (وهي في الواقع تدميرية) سوف تجفّف المصارف المحلّية، حتى القادرة منها على الاستمرار في خدمة الاقتصاد، من الودائع والخدمات المنتجة (المتاحة اليوم تحت أحكام التعميمين الأساسيّين 150 و165) الضرورية لإعطائها قسطاً من الحياة اللازمة لاستعادة قدرتها على الاستمرار في خدمة الاقتصاد الوطني في مراحل الإنقاذ والإنعاش والتعافي والصمود، إلى حين الوصول إلى مرحلة النموّ الاقتصادي.
تركيز السلطة النقدية اليوم يجب أن يكون على تعميم مصرف لبنان الأساسي الذي يحمل الرقم 165، وهو تعميم عودة الودائع إلى المصارف وليس سحبها إلى الخزنات الحديدية في المنازل
عمل القطاع المصرفي، بشكل عام، يسمح باتّخاذ المخاطر، وقد يصل في بعض الأحيان إلى مواجهة كارثة نقدية، وقد حصل ذلك في عدّة دول (قبرص، اليونان، والأزمة المالية العالمية) وفي عدّة محطات، وأمد الأزمة والخسائر والحلول تأتي على حجم وطبيعة الكوارث! ومع كلّ واحدة من هذه الكوارث كانت هناك حلول مختلفة، والأهمّ أنّه كانت هناك إرادة لدى أصحاب القرار، السلطات التشريعية والتنفيذية في تلك البلاد، لإصدار الحلول وتنفيذها. مشكلتنا في لبنان هو غياب الإرادة لدى مكوّنات السلطة السياسية لإقرار الحلول.
مصرف لبنان والإدارة المكرهة للأزمة
قَبِلَ مصرف لبنان مكرهاً مهامّ إدارة الأزمة بكلّ جوانبها، وأكبر دليل على ذلك هو توجّه كلّ مكوّنات الوطن، من قطاع خاص وقطاع عامّ، إلى مصرف لبنان في كلّ محطّة ومحنة. وأيضاً تجب الإشارة إلى أنّ كلّ تعاميم مصرف لبنان صدرت في ظروف استثنائية لمعالجة أزمة غير عادية وحقّقت بعض النتائج المرجوّة، ولم تصدر لإحداث انعطافة استراتيجية في السياسة النقدية على الرغم من أنّ معظمها كانت تعاميم أساسية. وكان مصرف لبنان دائماً بانتظار قرارات إصلاحية من السلطة السياسية ليبني عليها، وما زلنا جميعاً في الانتظار!
إقرأ أيضاً: 150 شهريّاً للمودع: 100 ألف دولار على 55 سنة
انتهت إقامة رياض سلامة على رأس السلطة النقدية، لكنّ قراراته استوطنت في كلّ مرافق الحياة وما زالت تحقّق البعض من أهدافها، ولن تفارقنا قريباً (التعميم الأساسي رقم 166 الصادر في 2 شباط 2024 ولد من رحم أداء سلامة). مصرف لبنان قام بإدارة أزمات، لا أزمة واحدة، من تاريخ قبوله بتسلّم هذه المسؤولية في 1993 بعد طيّ صفحة الحرب الأهلية وإطلاق عجلة إعادة إعمار لبنان، وإعادة الانتظام للعمل المصرفي، وإعادة الكرامة للنقد الوطني. وعوضاً عن أن يغادر سلامة بطلاً مكلّلاً بالنجاحات، نكس أعلامه ليغادرنا متّهماً من قبل القضاء، مداناً من قبل المواطن، ومجرماً بنظر المودع. في المقابل حافظت هذه الطبقة السياسية على موقعها ومكاسبها، وجاء كلّ ذلك على حساب الوطن والمواطن!
* خبير المخاطر المصرفية وباحث في الاقتصاد