بلى، هناك أسئلة محدّدة سيطرحها الموفد الفرنسي. وهناك أجوبة مطلوبة بوضوح وبلا لبس ولا رماديّة. أسئلة بعضها صعب. لكن عليها يتوقّف شيء من مصير. ففيها بعض التاريخ. والكثير من المستقبل. واليوم الجمعة آخر موعد لجمع الإجابات. وليست مصادفة أنّ مكان الامتحان في قصر الصنوبر بالذات.
وهو ما يستحقّ الكشف عن تلك الأسئلة واحتمالات الأجوبة وأسرار مكانها والزمان…
*****************************
يأتي الموفد الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت، في زيارة يحلو للبعض تشبيهها بزيارة الموفد الأميركي روبرت مورفي سنة 1958.
يومذاك كان البلد مأزوماً. وسط ميني حرب أهليّة بين مسيحيين ومسلمين. لكن بظلال إقليمية. عنوانها صراع الناصرية مع حلف بغداد. وبأبعاد دوليّة. جسّدتها بدايات الحرب الباردة، بين مشروع أيزنهاور من جهة، ونهضة خروتشوف من جهة أخرى، بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي. يوم نجح ذاك الفلاح الأوكراني بدفن ستالين بعد ثلاثة أعوام على وفاته. ليفتتح اتجاه موسكو الجديدة صوب الشرق الأوسط والعالم…
وسط ذاك المشهد المعقّد، كان ثمّة استحقاق رئاسي لبناني عالق طبعاً. جال مورفي الأوّل (قياساً إلى خلَفه بعد 32 عاماً ريتشارد مورفي صاحب معادلة “مخايل الضاهر أو الفوضى”) على اللاعبين اللبنانيين كافّة. ونُسب إليه يومئذٍ تلك المقولة الشهيرة، ومفادها أنّه وجد في بيروت ثلاثية مفارقة: بطريركاً (المعوشي) يتصرّف كرئيس، ورئيساً (شمعون) يتصرّف كقائد جيش، وقائد جيش (شهاب) يتصرّف كبطريرك.
بعد جوجلة في الداخل والخارج، خلص إلى اتفاق مع عبد الناصر على رئاسة فؤاد شهاب. فكفى الله المؤمنين شرّ القتال.
يأتي الموفد الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت، في زيارة يحلو للبعض تشبيهها بزيارة الموفد الأميركي روبرت مورفي سنة 1958
يعود لودريان إلى البلاد نفسها، لكنّ معطيات المعادلة تلك كلّها قد تغيّرت اليوم:
– لبنانياً أوّلاً: لم تعد الطبخة الرئاسية سهلة المكوّنات والمقادير والوصفة، كما كانت أواخر الخمسينيات. بل صارت أشدّ تعقيداً بكثير. ذلك أنّ لبنان كلّه تغيّر. مع مورفي الأوّل كانت المسألة، في شقّها المحلّي على الأقلّ، محصورة بين “الجمّيزة والبسطة”، بحسب معادلة بيار الجميّل وصائب سلام القديمة، والمترحَّم عليها وعليهما في هذا الزمن.
أمّا في زمن لودريان، فلم تعُد إشكالية التسوية بين طرفين اثنين بسيطَي التشكيل: مسيحيين ومسلمين. إذ لم يعد هناك مسيحيون، بمعنى 1958. ولا هناك مسلمون بمفهوم تلك الحقبة. أكثر من ذلك، ليس تفصيلاً أنّه لم تعُد هناك بيروت أصلاً.
وها هي محطّات زيارات الموفد الفرنسي خير برهان ودليل: من جهة أولى صارت هناك ضاحية. هي منطقة جغرافية تكاد تكون أقرب إلى مفهوم “الضاحية-الأمّة”. اقتباساً من مفهوم “الدولة الأمّة”. ضاحية-أمّة تنسب لنفسها موقعاً ودوراً وكيانيّة تامّة. لا بصفتها جنوب بيروت. بل بكونها جنوب العالم الإمبريالي المستكبِر ربّما. وهي تتصرّف لبنانياً وإقليمياً ودولياً، من جنوب الفيليبين حتى فنزويلا والأرجنتين، وفق هذا المفهوم والمنطوق. فما بالك بتصوّرها لِما هو محيط الضاحية المباشر ومحيط ما كان لبنان؟!
من جهة أخرى، اختفت الجمّيزة والبسطة معاً – برمزيّتهما السياسية والجماعاتية – عن الخريطة السياسية اللبنانية. ضاعت البسطة السنّيّة منذ سنوات. بين هزيمة في سوريا ونكسة في لبنان. وبين غياب وتغييب وقلق ومشاريع وراثات كاريكاتورية. فيما تشظّت جمّيزة الموارنة صوب الشمال. من حدود فتوح كسروان إلى بلاد البترون وإهدن. كأنّهم في عصر سلطنة بني عثمان وما قبل قيام الإمارة.
مفارقة صارخة في تعبيرها ودلالاتها، أنّه لم يعد هناك زعيم ماروني واحد يقطن بيروت. ولم يعد هناك زعيم سنّيّ جامع واحد يقيم في لبنان.
من هنا أولى إشكاليّات مهمّة لودريان داخلياً. وكأنّ إدارته باتت مدركة لهذا الواقع. لذلك حاولت عملياً اختصاره بطرفَي معادلة جديدة: “الضاحية وبكركي”. فلم يصحّ الحساب. بل تعطّلت الآلية. لكنّ المعطيات الأساسية لم تتبدّل. وهو ما دفع باريس ربّما إلى تصفير كلّ شيء وبداية البحث من جديد (علماً أنّ جدلية العلاقة الباريسية – المارونية تستحقّ بحثاً منفصلاً لاحقاً).
اليوم، ما من عبد الناصر جديد جامع للشرق السياسي. ولا بايدن قطباً جاذباً لكلّ الغرب. بل على العكس تماماً
– أمّا خارجياً: فالمعطيات أكثر تبدّلاً وانقلاباً عمّا كانت عليه في زمن تسوية “مورفي الأوّل”. يومئذٍ كان عبد الناصر ممثّلاً لكلّ مفهوم “الشرق السياسي”. لا في مصر وحسب. بل في الإقليم أيضاً. وخصوصاً في بيروت. وكانت واشنطن وكيلاً حصرياً لكلّ “الغرب السياسي”. وتحديداً في لبنان. خصوصاً بعد العدوان الثلاثي وانكفاء باريس ولندن. وبالتالي كان الاتفاق الأميركي المصري كافياً جامعاً وجذرياً. تمّ التفاهم فصار التنفيذ حتميّاً وبدقّة.
الأهمّ أنّه قُدِّر لتلك اللحظة شخص استثنائي اسمه فؤاد شهاب. قدّيس في بزّة عسكرية. أيْ شيء من تركيبة “أمير مؤمنين”. وهو كان أميراً فعلاً. وكان مؤمناً أكثر بثوابت لبنان. تجسّدت التسوية الدولية على اسمه. فجسّدها بناءً لدولة في سنتين. عشرات المؤسّسات الناظمة لمفهوم الدولة الحديثة. قبل أن يُبقوه على كرسي الرئاسة غصباً عنه طوال باقي ولايته. وقبل أن يمزّق مطالبة النواب بالتجديد له. ثمّ ينسحب ويموت مع زوجته وحيداً في بيت متواضع في جونيه. حيث رجمه موارنة الرؤوس الحامية. قبل أن يبكوه ندماً بعد فوات الأوان، وبعد إضاعتهم بلداً ووطناً.
بينما اليوم، ما من عبد الناصر جديد جامع للشرق السياسي. ولا بايدن قطباً جاذباً لكلّ الغرب. بل على العكس تماماً. فالقاهرة المهتمّة بلبنان حتى نسغ روحها القومية، مشغولة بأولويّات أخرى. بينما واشنطن الغارقة عن بعد في حرب أوكرانيا، تكتفي بتسقُّط أخبار بيروت من مراهقي جمعيّات فطريّة، أو من متدرّبي مؤسّسات استرزاق الدراسات السطحيّة.
الأسئلة.. والأجوبة في قصر الصنوبر
فيما الجوار اللبناني صار قائماً على دول إقليمية عظمى فعلاً: السعودية وإيران وتركيا. حيث تتناقض الحسابات اللبنانية ولا تنتهي إلى أيّ جواب ناجع.
وسط تعقيدات هذا المشهد، هل يقدر لودريان على اجتراح تكرار لمعجزة مورفي؟
الصعوبة ماثلة. لكن لا استحالة.
لم أتّهم السيّد باسيل بشيء. بل كلّ ما ورد في مقالي كان نقلاً عن جهات تعرفه تمام المعرفة كما يعرفها. وهي بكلّ الأحوال وقائع منشورة في الإعلام
يكفيه أن يوجّه أسئلة بسيطة إلى اللاعبين الأساسيّين:
– إلى الحزب أوّلاً: هل تريدون لبنان دولة؟ بعده، وافتراضاً لجواب نعم، هل تريدون لأنفسكم في هذه الدولة، أن تكونوا في صراع وجودي عنفيّ إلغائي مفتوح، مع كلّ جماعاته معاً؟
– وإلى كلّ الباقين من لاعبي تشكيلة واحتياط، من أبناء كمال جنبلاط إلى ورثة الحلف الثلاثي الماروني، في نسختهم التويتريّة، وصولاً إلى ميثاقيّي رياض الصلح وعلي سلام ورفيق الحريري وسلالاتهم، منذ مؤتمر الساحل حتى “لبنان أوّلاً”.
وقياساً إلى تجربة 1958 الإنقاذية بالذات: هل تريدون بناء دولة أواخر الخمسينيات، أم تكرار جنون تدمير دولة منتصف السبعينيات؟
يُرجى تسليم الأجوبة سريعاً في قصر الصنوبر. قبل أن يشهد مكان إعلان لبنان الكبير… انتفاء جدواه كدولة، وانتهاء صلاحيّته كوطن، وإلغاء وجوده!
***************************
ردّاً على جبران باسيل:
من دواعي الأسف، لا الاستغراب طبعاً، أنّ السيّد جبران باسيل أصدر بياناً يدّعي فيه أنّني اتّهمته بأمور غير صحيحة في مقالي الأخير. تحديداً في مسألتَيْ إحدى جمعيّاته في وزارة الطاقة، والتعدّيات على الأملاك البحرية في منطقة البترون وجوارها.
للدقّة والحقيقة، لم أتّهم السيّد باسيل بشيء. بل كلّ ما ورد في مقالي كان نقلاً عن جهات تعرفه تمام المعرفة كما يعرفها. وهي بكلّ الأحوال وقائع منشورة في الإعلام. وهذا تأكيد مكرّر لها:
كلام النائب حسن فضل الله عن جمعيّة باسيل
الارتكابات القانونيّة لجمعيّة باسيل
أمّا عن الأخلاق في الأسلوب والصدقيّة في المضمون، فأتركها كاملة للسيّد باسيل. لأنّه قد يكون أحوج إليها.
إقرأ أيضاً: هل تخلّت فرنسا عن فرنجيّة؟
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@