آن غريّو: أنا خالي هوّ يلّي بِأكّلهُم!

مدة القراءة 4 د


أعشق الممثّل عادل إمام، وأتسمّر أمام الشاشة كلّما صادفت أحد أعماله. أحبّ خصوصاً مسرحية “الواد سيّد الشغّال”، التي تعرضها شاشات التلفزة مثل الفرض الواجب خلال الأعياد. أشاهدها في كلّ مرّة وكأنّني أشاهدها للمرّة الأولى.
أطرف المشاهد فيها تلك الارتجالية، التي يخرج فيها عادل إمام عن النصّ.
تذكّرت تلك المسرحية يوم الجمعة الفائت. لم يعرضها التلفزيون على الإطلاق، فلا مواسم أعياد في هذه الأيام. المناسبة كانت “العيد الوطني الفرنسي” في قصر الصنوبر. مرّت مشاهد من الحفل خلال نشرة الأخبار، فسمعت مقتطفات ممّا قالته السفيرة الفرنسية، سفيرة “أمّنا الحنون”، آن غريو.
أصابت غريو في كثير من الأمور، وأخطأت في أخرى، فخرجت بذاك الخطاب عن الأصول الدبلوماسية ولم تحترم السيادة اللبنانية (ولو أنّنا نعرف جيّداً أنّ تلك السيادة بات الحديث عنها سوريالياً ومثيراً للضحك).
لقد استوقفني كثيراً ما قالته غريو، وتذكّرت تلك المسرحية. تذكّرت تحديداً حينما قال عادل إمام للمقتدر المقبل من أميركا: “أنا خالي هو يلّي بأكّلهم” (يا للصدفة… الأميركي حاضر دوماً). لم ينقص غريو في ذاك الخطاب إلا قول تلك الجملة، حتى نعرف قيمة فرنسا وأفضالها علينا نحن اللبنانيين (الله يجرّصكم).
لم يكن خطاب غريو “خطاب وداع” ولا حتى “خطاب عيد وطني”، بل كان أشبه بخطاب “نقل ملكيّة”. تحدّثت غريو وكأنّ لبنان مستعمرة فرنسية من خمسينيات القرن الماضي، فأشبعتنا “مهانة” و”تربيح جميلة”، فظننت لوهلة أنّه بعد الخطاب ستحزم لبنان في حقيبتها وتأخذه معها إلى الخارجية الفرنسية في باريس.

لم يكن خطاب غريو “خطاب وداع” ولا حتى “خطاب عيد وطني”، بل كان أشبه بخطاب “نقل ملكيّة”

ردّدت غريو في ذاك الخطاب 7 مرّات جملة “أين كنتم”. في المرّة الأولى، قالت غريو: “أين كنتم اليوم لو أنّ فرنسا لم تحتضن قواكم الأمنيّة؟”… ممم؟ ردّوا يا متعلّمين يا بتوع المدارس!
وأضافت: “أين كنتم لو لم يؤمّن العسكر الفرنسي الاستقرار في جنوب لبنان؟” (كلّهم 700 جندي… روقي علينا شوي!).
ثمّ بعد ذلك، عادت غريو إلى حقبة شيراك، فقالت: “أين كنتم اليوم لو أنّ فرنسا لم تحشد جهود المجتمع الدولي 3 مرّات متتالية لتجنّبكم انهياراً عنيفاً تحت وطأة الإفلاس المالي وتدهور الليرة (تقصد باريس 1 و2 و3) والانفجار في مرفأ بيروت؟”. يا ستّي كتّر خيركم… جميلكم على راسنا من فوق.
بعد ذلك، عرّجت على التعليم، وأردفت: “أين كنتم اليوم لو أنّ فرنسا لم تهبّ على وجه السرعة لدعم مدارسكم كَيلا تغلق أبوابها، لا سيّما المدارس الخاصّة، والمسيحيّة منها بشكل خاص، التي تستقبل نحو ثلثَي التلاميذ اللبنانيين؟”. لاحظ هنا كيف تقمّصت غريو عنجهية جبران باسيل في اللعب على الوتر المسيحي!
ثمّ انتقلت إلى الطبابة: “أين كنتم اليوم لو لم تساهم فرنسا في تمويل عمل المستوصفات والمستشفيات وبرامج الأمن الغذائي كي يستمرّ اللبنانيّون؟”، مع العلم أنّني لا أذكر أنّني حصلت أنا وغيري على حبّة “بنادول” من أمّي الحنون… ولا حتى على قرص “بيكون” أصفر!
بعدها قفزت غريو إلى الثقافة: “أين كنتم اليوم لو لم تحافظ فرنسا على مساحات لحريّة التعبير والابتكار والنقاش واللقاء عبر إعادة إطلاق مهرجانات الكتاب والسينما والموسيقى في جميع أنحاء لبنان؟” (أظنّ أنّ ذكر اسم تامر حسني يكفي للردّ على هذا الادّعاء).
كان لنا نصيب بالمهتّة التجارية والاقتصادية أيضاً، إذ قالت: “أين كنتم اليوم لو أنّ الشركات الفرنسية قلّصت أعمالها وتخلّت عن فِرَق العمل المحليّة فيها؟”. فنسيت صفقات مرفأي بيروت وطرابلس وشركة توتال، ليبان بوست، وغيرها من المشاريع… وكأنّ فرنسا تحبّنا على سواد عيوننا (يا دافع البلا).
سبع “أين كنتم” كانت كافية لتمسح بكرامة “لبنان الدولة” والدبلوماسية اللبنانية الأرض، بينما “اتفاقية فيينا” للتمثيل الدبلوماسي شوهدت ناحية جسر البربير، “عم تبكي بالزاوية”.

إقرأ أيضاً: يا طالب الدبس بالفرنساوي..

لم يجرؤ رجل في هذه الدولة على الاعتراض على مضمون ما قالته السفيرة الفرنسية. كيف يفعلون، وهم اليوم رهائن فشلهم وفسادهم أمام القاضية أود بوريزيه وأترابها في القضاء الفرنسي وغير الفرنسي؟
خطاب غريو يوم الجمعة (والملايكة مجتمعة) لم يكن خطاب “أمٍّ حنون”. بل كان خطاب “خالة مرت أب”. خطاب مهين للّبنانيين ولمن حَضَرَ الحفل في ذاك القصر. قصر الصنوبر الذي أُعلن منه قيام لبنان الكبير قبل 103 سنوات بالتمام والكمال.
بسبب تقاعس السلطة وفسادها الذي “جاب وجهنا بالأرض”، ينطبق علينا المثل الشعبي القائل “الابن العاطل بجيب لأهله المسبّات”.
أمّا بالعودة إلى تلك المسرحية، فينطبق علينا، بالفعل، قول عادل إمام: “يا شماتة آبلة طازا فينا!”.

*هذا المقال من نسج خيال الكاتب

لمتابعة الكاتب على تويتر: abo_zouheir@

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…