يا طالب الدبس بالفرنساوي..

مدة القراءة 5 د


“يا طالب الدبس من طيز النمس… كفاك الله شرّ العسلِ”.

هو مثل بيروتي عتيق و”زقاقي”، يُطلَق على كلّ من يلتمس حاجة في غير موضعها، أو يطلب معروفاً من شحيحٍ، أو مَن تنطلي عليه حيلة من لئيم.

والنمس هو قارض ماكر يخرج ليلاً ليصطاد، ويُحكى عنه الكثير من القصص والسوالف الشعبية، لكن نادراً ما تسمع أنّ أحداً صادفه أو يعرف شكله جيّداً بسبب مكره وتخفّيه.

يُحكى أنّه كان في أحد أسواق بيروت القديمة عطّار مُلقّب بـ”النمس”. هذا العطار، أي “النمس”، كان يجلس كلّ صباح على باب دكّانه ويدخّن أرجيلة عجمي، ويتبلّى الزبائن، ويقترف المقالب والنهفات بحقّ المارّة.

شهدت فرنسا تظاهرات عنيفة مدمّرة تهدّد نظامها، وتنتشر فيها العنصرية لدرجة أنّ الأمم المتحدة “بشحمها ولحمها” طالبتها بمعالجة آفة التمييز العنصري في صفوف قوات الأمن، بعد 3 أيام على إقدام شرطي على قتل أحد المراهقين، من المهاجرين”

مرّ به رجل ساذج ذات مرّة، ونظر إلى برميل من القطران وضعه النمس عند مدخل الدكّان. قال له الساذج: “شو هيدا؟ نوع دبس جيّد؟”.

ردّ النمس: “دوق وبتعرف”.

غمس الساذج إصبعه في برميل القطران، وتذوّق “لحسة”، ثمّ التفت صوب النمس، وقال له: “بدّك تقول عنّي غشيم قول… بس دبساتك فيهن مرورة!”.

ضحك النمس على الرجل المسكين، ومنذ ذلك الوقت انتشرت القصّة حتى أصبحت أمثولة شعبية معروفة باسم: “يا طالب الدبس…”. وثمّة قصص وسوالف بيروتية أخرى عن الدبس، مثل “كبّي الدبسات واحمليني” للدلالة على من يعرض المساعدة على من هو بحاجة إليها، وكذلك أمثال عن ذاك الذي “يلحس الدبس عن الطحينة” للدلالة على قدراته في السرقة…

“عسل الفقراء”

يسمّى الدبس أيضاً “العسل الأسود”، وهو عسل الفقراء الذين لا يستطيعون شراء عسل النحل الطبيعي الغالي الثمن، فيستعيضون عنه بدبس الخرّوب مع قليل من الطحينة في طاسة صغيرة يكونان “تحلاية” بعد وجبة الطعام.

الدبس هو مستحلب من قرون الخروب، التي كانت أشجاره منتشرة بكثافة في بيروت قديماً، خصوصاً في الأزقّة التي نُسبت إلى الخرّوبة في ذلك الوقت، منها زقاق الخرّوبة في عين المريسة، وزقاق الخرّوبة في ميناء الحصن، وزقاق الخرّوبة في محلّة مزرعة العرب، وزقاق خرّوبة بيت المعقصة في رأس بيروت، وزقاق خرّوبة بيت غبريل في المصيطبة، وخرّوبة بيت التنّير في محلّة شوران، وخرّوبة بيت منيمنة في الباشورة.

الهرج والمرج اللذان سادا شوارع باريس أعاداننا إلى سوالف الدبس. فهل هذه هي فرنسا التي تطمح إلى مساعدتنا؟

كانت معاصر الخرّوب تنتشر في أزقّة العاصمة، مثل معاصر آل دندن والأنسي والغندور والناطور ودسوم وجبر والسبليني والجبيلي ويارد وغيرهم، (راجع كتاب المؤرّخ عبد اللطيف فاخوري “ذاكرة أزهار وأشجار بيروت”).

مع تطاول البنيان والقضاء على أغلب المساحات الخضراء في “أمّ الشرائع” بيروت، بقيت هذه الأشجار منتشرة على الساحل الممتدّ من خلدة وصولاً إلى السعديّات، خصوصاً قرب قصر الرئيس الراحل كميل شمعون، وصعوداً صوب الدبّيّة ثمّ إقليم الخروب، المسمّى كذلك نسبة لشجر الخرّوب أو الخرنوب.

كان أغلب أهل بيروت يقصدون تلك المنطقة (السعديّات) لإقامة “السيران” بعد اختفاء المساحات الخضراء في العاصمة، وذلك للتنفّس في “البرّية”، وإطلاق العنان لمناقل الفحم من أجل شيّ اللحوم، ثمّ السباحة وجمع “التوتيا” (انقرضت كلّياً) قبالة أجمل شاطىء بحريّ على الساحل الجنوبي، وهو أشبه ما يكون بشواطىء اليونان. اختفت تلك العادات اليوم، خصوصاً نتيجة “تراند” المسابح و”الريزورتس” لزوم الشخلعة ودفع الدولارات “الفريش”، ومن لم يستطِع إلى ذلك سبيلاً، بقي غارقاً بفقره “عم يشيل توتيا”.

بات الخطّ البحريّ القديم وذكرياته الجميلة في غياهب النسيان، خصوصاً بعد شقّ أوتوستراد الجنوب الذي بات المسلك الأشهر وتنتشر على جانبيه المطاعم والأفران. بينما الخطّ القديم أصبح مهجوراً معزولاً، ما خلا بعض المراكز للجيش اللبناني، ولا يقصده إلّا قطّاع الطرق وطالبو الـ”إيز ميز” والعربدة المجّانية.

ليست هذه المقدّمة المُسهبة لنبش الذكريات والترحّم على أيام الزمن الجميل فحسب، وإنّما لأنّ الشيء بالشيء يُذكر. أمّا قصّة “الدبس وقفا النمس”، فمناسبة ذكرها تعود إلى ما يحصل لنا مع “أمّنا الحنون” فرنسا، التي نطلب منها العون والمساعدة لتخطّي أزمتنا الاقتصادية، وللتخلّص من الفراغ القاتل في سدّة الرئاسة، فيما هي في الحقيقة لا تريد إلّا “لحس” الدبس عن الطحينة اللبنانية!

إقرأ أيضاً: “شرودنغر” وضع القطّة في صندوق… نحن ذبحناها

شهدت فرنسا تظاهرات عنيفة مدمّرة تهدّد نظامها، وتنتشر فيها العنصرية لدرجة أنّ الأمم المتحدة “بشحمها ولحمها” طالبتها بمعالجة آفة التمييز العنصري في صفوف قوات الأمن، بعد 3 أيام على إقدام شرطي على قتل أحد المراهقين، من المهاجرين”، بالرصاص.

الهرج والمرج اللذان سادا شوارع باريس أعاداننا إلى سوالف الدبس. فهل هذه هي فرنسا التي تطمح إلى مساعدتنا؟

فلتساعد نفسها قبل أن تعرض “خدماتها” على الآخرين… فعلاً، يا طالب الدبس!

*هذا المقال من نسج خيال الكاتب

لمتابعة الكاتب على تويتر: abo_zouheir@

مواضيع ذات صلة

الحروب ليست حلّاً…  

عالم الحروب اليوم أعمق وأخطر، وقد وصل إلى قلب أوروبا بهجمة روسيا على أوكرانيا عام 2022 التي استمرّت حتى اليوم. وكأنّما كانت إسرائيل تنتظر مسوِّغاً…

“الحزب” يتموضع مسبقاً شمال اللّيطاني؟

يتحضّر “الحزب” لـ”اليوم التالي” للحرب. لا يبدو أنّ بقيّة لبنان قد أعدّ عدّة واضحة لهذا اليوم. يصعب التعويل على ما يصدر عن حكومة تصريف الأعمال…

كيف استفاد نتنياهو من تعظيم قدرات الحزب للانقضاض؟

كلّما زار آموس هوكستين بيروت في الأشهر الماضية، كان المسؤولون اللبنانيون وبعض المتّصلين به من السياسيين يسرّبون بأنّها “الفرصة الأخيرة”. لكنّه ما يلبث أن يعود،…

نتنياهو هزم الجنرالات…

ما حكاية الخلاف الشديد بين بنيامين نتنياهو وجنرالات الجيش والأمن في إسرائيل؟ لماذا يبدو أبطال الحرب أقرب إلى التسويات السياسية مع الفلسطينيين، بل مع حلّ…