قبل إصابته بوعكة صحيّة أقعدته بضعة أيّام، واجه الرئيس رجب طيّب إردوغان وعكة سياسية مع ظهور منافسة قويّة له في الانتخابات الرئاسيّة التركيّة المقرّرة في الرابع عشر من أيّار المقبل.
كشفت استطلاعات عدّة للرأي العامّ، وهي استطلاعات ذات طبيعة جدّية، تقدّماً لمنافسه كمال كيليتشدار أوغلو. يتبيّن حاليّاً أنّ فوز كيليتشدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري، في الانتخابات الرئاسيّة لم يعد احتمالاً مستبعداً كلّياً. لكن ما لا بدّ من التوقّف عنده ظهور موقفين متباينين من دعم إردوغان بين من يُفترض أنّهما حليفان، أي بين فلاديمير بوتين وبشّار الأسد.
في ضوء العلاقة التي أقامها إردوغان مع الرئيس فلاديمير بوتين، صار الرئيس التركي حاجة لدى موسكو، خصوصاً بعدما ذهب بعيداً في مغامرة استرضاء الرئيس الروسي
قدّم بوتين، بناء على طلب إيراني ملحّ ترافق مع مغريات من “الجمهوريّة الإسلاميّة” جاء بها إلى موسكو الراحل قاسم سليماني، كلّ المطلوب لإنقاذ النظام السوري في مرحلة حرجة مرّ فيها ابتداء من أواخر أيلول 2015. وقتذاك، كانت المعارضة المسلّحة في طريقها إلى السيطرة على الساحل السوري حيث الأكثرية العلوية. لكن تدخّل سلاح الجوّ الروسي الذي نُقل جزء منه إلى قاعدة حميميم قرب اللاذقية حال دون سقوط تلك المنطقة السوريّة.
ينطبق على بشّار الأسد، الذي يعترض، في هذه الأيّام، على دعم بوتين لإردوغان، قول مشهور للكاتب والروائي الفرنسي ألكسندر دوما. قال دوما الذي عاش بين 1802 و1870: “هناك خدمات كبيرة، إلى درجة، لا يمكن ردّها إلّا بنكران الجميل”.
قبل الدخول في متاهات العلاقة بين النظام السوري وروسيا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ سلسلة من الأخطاء ارتكبها إردوغان سهّلت الطريق أمام خصومه. بين هذه الأخطاء الشعور العامّ لدى أوساط الشباب التركي بأنّ زعيم حزب العدالة والتنمية يسعى عمليّاً إلى القضاء على كلّ ما هو ليبرالي وحضاري في البلد من جهة، وفرض رؤية الإخوان المسلمين على المجتمع من جهة أخرى.
ليست طبقة الشباب وحدها التي تعترض على توجّهات إردوغان، هناك أيضاً كبار رجال الأعمال الذين جعلهم إردوغان يهربون مع أموالهم إلى خارج البلد. هناك الأهمّ من ذلك كلّه موقف المؤسسة العسكرية التي ما زالت حيّة ترزق على الرغم من كلّ ما فعله إردوغان من أجل السيطرة عليها وجعلها تتخلّى عن الأفكار العلمانيّة التي زرعها مصطفى كمال أتاتورك. تخشى المؤسسة العسكرية من هجمة إردوغان التي تستهدف تغيير طبيعتها استكمالاً للحملة التي باشرها الرئيس التركي مستغلّاً ما سُمّي “انقلاباً” استهدفه في تموز من عام 2016، وهو انقلاب يؤكّد القريبون من إردوغان أنّ بوتين ساعده في إفشاله.
الأكيد أنّ تدهور الوضع الاقتصادي التركي في السنوات الأخيرة وآثار الزلزال الذي دمّر مناطق تركيّة كاملة لم يخدما إردوغان ولن يخدماه في الانتخابات الرئاسية. تبيّن أنّ الحكومات المتعاقبة في عهد إردوغان قد اخترقها الفساد إلى أبعد حدود. أكّدت ذلك الطبيعة الهشّة للأبنية التي شيّدت في مناطق ضربها الزلزال في السادس من شباط الماضي. لكنّ ما تبيّن أيضاً أنّ الرئيس التركي أقام شبكة علاقات خاصة به جعلت منه عبئاً على البلد نفسه وعلى العلاقة التي تربط تركيا الأطلسية بأميركا ودول أوروبا الغربيّة.
في ضوء العلاقة التي أقامها إردوغان مع الرئيس فلاديمير بوتين، صار الرئيس التركي حاجة لدى موسكو، خصوصاً بعدما ذهب بعيداً في مغامرة استرضاء الرئيس الروسي. وصل به الأمر إلى شراء منظومة صواريخ روسيّة مضادّة للطائرات (إس -400). اشترى المنظومة على الرغم من انتماء تركيا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو).
باتت المفارقة أنّ بوتين بات يدعم إردوغان فيما لدى بشّار الأسد حساب يريد تصفيته معه. يعطي رفض الأسد الابن تلبية مطالب الرئيس الروسي في ما يتعلّق بدعم إردوغان، بما في ذلك عقد لقاء معه، فكرة عن موقف سوري من الرئيس التركي. في أساس هذا الموقف فكرة انتقام الأسد من إردوغان من جهة، والاستخفاف، إلى أبعد حدود الشماتة، بوزن روسيا في ضوء غرقها في الوحول الأوكرانيّة من جهة أخرى.
ليس مهمّاً أن يكون الرئيس التركي علويّاً أو سنّيّاً. سيكون إردوغان أقرب إلى موسكو من منافسه الذي سيعني قبل أيّ شيء آخر إنقاذ تركيا الأتاتوركيّة ومنع إردوغان من القضاء عليها
لا شكّ أنّ الرئيس الروسي نادم في هذه اللحظة على إنقاذ النظام السوري من السقوط في أيلول 2015. لعبت القاذفات الروسية دوراً حاسماً في منع سقوط الساحل الثوري في وجه قوات المعارضة التي كانت تتقدّم بقوّة في اتجاه السيطرة على المناطق ذات الأكثريّة العلوية في سوريا.
هناك ما هو أبعد من الانتخابات التركيّة واحتمال سقوط إردوغان. قبل كلّ شيء، كشف موقف بشّار الأسد من الرئيس التركي ورفضه الانصياع لِما يطلبه منه فلاديمير بوتين، ضعف روسيا التي اضطرّت إلى سحب قوات من سوريا. لم تكتفِ روسيا بسحب قوّات، بل باشرت تجنيد مرتزقة سوريين تدفع لكلّ منهم نحو 120 دولاراً شهرياً كي يحلّ هؤلاء مكان الجنود الروس المنسحبين من مناطق معيّنة.
من يصفّي حساباته مع من في تركيا؟ الأكيد أنّ النظام السوري سيخرج خاسراً، سواء ربح إردوغان أو لحقت به هزيمة نكراء. إذا كان الرهان لدى النظام السوري على كمال كيليتشدار أوغلو، فإنّ هذا الرهان في غير محلّه. صحيح أنّ مرشّح المعارضة التركيّة خرج إلى العلن في رسالة وجّهها إلى الشعب التركي قائلاً “إنّي علويّ”، أي لست مسلماً سنّيّاً، لكنّ الصحيح أيضاً أنّه شدّد في الوقت ذاته على أنّه “مسلم” في خدمة تركيا.
سيكون إردوغان ناقماً على بشار الأسد الذي لن يجد في كيليتشدار أوغلو حليفاً له. في النهاية، سيكون مرشّح المعارضة التركيّة أطلسياً وأميركياً. سيتقرّر بقاء الجيش التركي في شمال سوريا أو انسحابه منه في واشنطن. ستظلّ السياسة التركيّة تطالب بتنفيذ القرار الرقم 2254 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة… وهو قرار يثير حساسيّة بشّار الأسد إلى حدّ كبير.
إقرأ أيضاً: غاز البحر الأسود التركي.. وانتخابات تركيا
ليس مهمّاً أن يكون الرئيس التركي علويّاً أو سنّيّاً. سيكون إردوغان أقرب إلى موسكو من منافسه الذي سيعني قبل أيّ شيء آخر إنقاذ تركيا الأتاتوركيّة ومنع إردوغان من القضاء عليها.