أعطِ كلّ ذي حقّ حقّه.
قد لا تعجبنا القرارات السياسية والاقتصادية التي اتّخذتها قيادات حزب العدالة والتنمية التركي في التعامل مع ملفّات داخلية وخارجية في الأعوام الأخيرة. وقد تدفع ثمن ذلك انتخابياً بعد 3 أسابيع. لكنّها بإجماع شعبي تستحقّ في الوقت نفسه التقدير لنجاحها في تحقيق الرقم القياسي في عمليّات استخراج ملايين أطنان الغاز الطبيعي من أعماق البحر الأسود، على الرغم من التحدّيات والصعاب، ووضعها بتصرّف المستهلك. هذا ما تردّده اليوم أقلام كثيرة، بينها أقلام معارضة، وكبريات الشركات العالمية العاملة في قطاع الطاقة.
هديّة وإنجازات
أعلن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان تقديم هديّة مجّانية للمواطنين الأتراك: 25 متراً مكعّباً من غاز البحر الأسود لكلّ منهم. لكنّ المعارضة وصفتها بـ”المناورة الانتخابية” لكسب بعض الأصوات. والهديّة الحقيقية التي قدّمها الحزب الحاكم لتركيا هي أهمّ وأكبر من ذلك بكثير. فقد توحّدت جهود السلطات السياسية وخبرات الفنّيين والمهندسين، بمشاركة 10 آلاف شخص ينتشرون بين اليابسة والبحر، من أجل استخراج مليارات الأمتار المكعّبة من الغاز الطبيعي في أعماق الجانب التركي من مياه البحر الأسود، فكان لتركيا ما أرادت.
قد لا تعجبنا القرارات السياسية والاقتصادية التي اتّخذتها قيادات حزب العدالة والتنمية التركي في التعامل مع ملفّات داخلية وخارجية في الأعوام الأخيرة. وقد تدفع ثمن ذلك انتخابياً بعد 3 أسابيع
صحيح أنّ القيادات السياسية في الحكم تعاني اليوم من ارتدادات أخطاء ارتُكبت في رسم المواقف والسياسات. وهي أمام امتحان الصناديق الصعب الذي يختلف عن المرّات السابقة. لكن لا يمكن سوى قبول حقيقة نجاح حزب العدالة في نقل تركيا خلال العقدين الأخيرين من حال إلى أخرى:
– هناك من يدشّن إنتاج السيارة التركية “توغ ” التي بدأت تدخل الأسواق على أمل إنتاج مليون سيارة في السنوات السبع المقبلة.
– هناك من يستعدّ لتشغيل المفاعل الأول لتوليد الطاقة الذرية “أك كويو” في مدينة مرسين الجنوبية، وقد كلّف أنقرة مليارات الدولارات.
– هناك أيضاً من يعلن العثور على أكثر من 700 مليار متر مكعّب من الغاز الطبيعي في منطقة البحر الأسود والشروع في استخراجها ووضعها تحت تصرّف المواطن التركي للاستفادة منها، وذلك في فترة زمنية قياسية. وتكلّلت المرحلة الأولى من نقل الغاز الطبيعي من المياه التركيّة في أعماق البحر الأسود إلى اليابسة بالنجاح، بعدما أنفقت تركيا حوالي مليارَي دولار على إنجاز “مشروع صقاريا” الغازيّ حتى الآن.
مكاسب اقتصاديّة وسياسيّة
هل يعني ذلك أنّ تركيا خرجت من دائرة الدول التي تستورد الطاقة؟
طبعاً لا. تركيا ما زالت دولة تستورد أكثر من 90 في المئة من احتياجات الطاقة من الخارج. ترى القراءة الأولى لنتائج وارتدادات ما جرى أنّه يشكّل مكاسب انتخابية إضافية لحزب العدالة والتنمية. لكنّ المكاسب السياسية والاقتصادية والإنمائية والاستراتيجية أهمّ من ذلك بكثير. فبين الأهداف الأولى:
– تلبية نحو 30 في المئة من احتياجات البلاد الغازيّة عندما يصل الإنتاج إلى طاقته الكاملة.
– توفير جزء أساسي من الاكتفاء الذاتي للطاقة قبل نهاية عام 2030.
– تقليص احتياجات تركيا من الطاقة المستورَدة التي تصل إلى ما يقرب 60 مليار متر مكعّب من الغاز سنوياً.
– الاعتماد على التنسيق الاستراتيجي مع روسيا في خطط الطاقة الإقليمية، لكن من دون الجلوس في الحضن الروسي، والحؤول دون محاصرة الحركة التركية الإقليمية في هذا المجال.
– تقليل الارتدادات السياسية لتحمّل فواتير شراء الغاز من إيران بعد أكثر من أزمة توتّر ثنائي وإقليمي حول هذا الملفّ.
– إيصال 710 مليارات متر مكعّب من غاز البحر الأسود إلى المستهلك التركي خلال العقود الثلاثة المقبلة.
– مساهمة الغاز المستخرَج من حقل صقاريا على مراحل، في إنعاش الاقتصاد التركي. والهدف الأوّل توفير 35 مليار دولار. والهدف البعيد توفير تريليون دولار لصالح الاقتصاد حسب الخبراء الأتراك.
– الدفاع عن حقوق تركيا المائيّة في البحار المحيطة، خصوصاً في شرق المتوسّط وبحر إيجه.
– الخروج من وضعية التأزيم إلى الحلحلة مع دول الجوار بأسرع ما يكون، للتفاهم حول خطط ومشاريع الاستفادة من ثروات أعماق البحار المشتركة.
– المساهمة في تنويع مصادر الطاقة، وبينها النوويّة والشمسيّة.
تركيا ما زالت دولة تستورد أكثر من 90 في المئة من احتياجات الطاقة من الخارج. ترى القراءة الأولى لنتائج وارتدادات ما جرى أنّه يشكّل مكاسب انتخابية إضافية لحزب العدالة والتنمية. لكنّ المكاسب السياسية والاقتصادية والإنمائية والاستراتيجية أهمّ من ذلك بكثير
وعود مستقبليّة.. و3 مراحل
ينبغي هنا تذكُّر تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن فرص تركيا بأن تصبح محطة عبور الطاقة بين الشرق والغرب، وما أعلنه وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو في العام المنصرم من أنّ تركيا جاهزة لتلعب دور جسر نقل الغاز كما فعلت مع النفط العراقي. وهذا يحوّلها إلى اللاعب الرئيسي الأوّل في إمدادات الغاز الطبيعي المتّجهة إلى أوروبا.
أعلن وزير الطاقة التركي فاتح دونماز أنّ تركيا أشعلت الشرارة الأولى على طريق اكتفائها الذاتي من الطاقة من خلال هذا الاكتشاف. أربعة تحديثات للأرقام بدأت بـ 320 مليار متر مكعّب ووصلت إلى 710 مليارات متر مكعّب. بدأت الحكاية مع اكتشاف مئات المليارات من الغاز الطبيعي عام 2020 في مناطق شمال غرب البحر الأسود وعلى بعد 170 كلم من اليابسة، واستنفار حوالي 50 سفينة تنقيب في الأسطول التركي، أبرزها “الفاتح” و”يافوز” و”قانوني”، لإيصال هذه المادّة إلى السواحل خلال فترة زمنية قياسية لا تتجاوز 3 سنوات، وعمل 10 آلاف شخص في البحر والبرّ على مدار الساعة.
أمّا خطّة التحرّك فتقوم على 3 مراحل:
– المرحلة الأولى: استخراج 10 ملايين متر مكعّب يومياً من 5 آبار على أن يتمّ الاستخراج من الآبار الخمس الأخرى في أيلول المقبل.
– المرحلة الثانية: في عام 2026، وسيتمّ خلالها استخراج 40 مليون متر مكعّب من الغاز الطبيعي يومياً.
– المرحلة الثالثة: تنطلق في عام 2028، وترتفع خلالها كمّية الاستخراج اليومي إلى 60 مليون متر مكعّب بهدف توفير حوالي 7 في المئة من احتياجات تركيا من الغاز الطبيعي.
دخول الروبوتات الغوّاصة
خلال الحديث عن عمليات التنقيب والاستخراج يجب الحديث عن الدور الذي لعبته الروبوتات الغوّاصة من طراز “كاشف” التي طوّرتها شركة “أرملسان” للتكنولوجيا الدفاعية بإمكانيات محلّية في أنشطة الحفر والاستخراج على عمق مئات الأمتار، محطّمةً أرقاماً قياسية في العمل والوقت والبقاء تحت سطح البحر على الرغم من الخطر.
لحظة وضع اللمسات الأخيرة على هذه المقالة فاجأنا الضابط البحري المتقاعد وأحد أهمّ القيادات البحرية السابقة وصاحب نظرية “البحر الأزرق” جهاد يايجي بمقالة يقول فيها إنّ كمّيات الغاز في الجرف القارّي التركي، لمنطقتَي البحر الأسود والمتوسّط، تكفي لمدّة 572 سنة وفقاً لأرقام اليوم. ويعود سبب عرقلة النفوذ التركي في شرق المتوسط وإيجه إلى هذا الاحتياطي الكبير الذي سينقل تركيا من دولة تستورد معظم احتياجاتها الغازية إلى دولة اكتفاء ذاتي عند استخراج هذه المادّة من قاع البحر.
يتابع يايجي: “الآن تعرّفنا إلى أسباب محاولات عرقلة عمليات التنقيب عن الطاقة في تركيا من قبل قوى خارجية يهمّها إبقاء أنقرة في صفوف الدول المحتاجة إلى الطاقة. لكنّ أنقرة اليوم كسرت رِجل الشيطان، كما يقول المثل الشعبي التركي، بعد عقود طويلة من التكاليف الباهظة لاستيراد النفط والغاز التي وصلت إلى 60 مليار دولار سنوياً”.
إقرأ أيضاً:
تتوجّه الأنظار نحو الدول المتشاطئة هناك والتي تملك كلّ هذه الثروات في أعماق بحارها، لكنّها تتمسّك بتحطيم آمال شعوبها وحرمانها هذه الخيرات.
يتزايد موقع ودور “جيوبوليتيك” الطاقة في الإقليم يوماً بعد آخر. يحمل معه العقد المقبل أكثر من سيناريو حول هذه المادّة الاستراتيجية. الاحتمال الأوّل هو التفاهمات والتعاون والتنسيق على طريق الشراكة والتقاسم. والاحتمال الآخر هو التصعيد والمواجهة والاصطفافات المتواصلة بسبب التحاصص وترسيم الحدود، فتتحقّق أهداف البعض في إبقاء هذه الثروات مدفونة في أعماق البحار.